عبد الجليل سليمان

عيزانا والهجرة ومريود والحمض النووي 2-3


كتب عيزانا في نقشه الشهير: (حاربت النوبا لأنهم ثاروا وتباهوا بذلك، وقالوا إن الأكسوميين لن يعبروا نهر تكازى )عطبرة(، وقد حذرتهم لكنهم رفضوا الانصياع وتَرْك أعمالهم الشريرة وتهيأوا للحرب، فحاربتهم على تكازى عند مخاضة فلم يصمدوا وفروا، وطاردتهم 23 يوما قتلت بعضهم وأسرت البعض الآخر، وأحرقت مدنهم المشيدة بالقصب والمشيدة بالطوب، وأخذت طعامهم ونحاسهم وحديدهم، وحطمت التماثيل في معابدهم وخربت مخازنهم وقُطْنهم وألقيت بكل ذلك في نهر سيدا. ثم أتيت إلى كاسو وخضت معركة وأخذت أسرى عند التقاء نهري تكازى وسيدا.

وفي اليوم التالي أرسلت جيش داماوا وفالها (بالها) وسِيرا للإغارة على المدن المشيدة بالطوب هي مدن علوة ودارو (ربما الكدرو الحالية). ثم بعد ذلك أرسلت جيش هالين ولاكين في مجرى سيدا الأدنى لمحاربة المدن الأربع المشيدة بالقصب.. والمدن المشيدة الطوب والتي أخذها النوبا هي تابيتو وفيرتوتي، ووصل جيشي حدود النوبا الحمر وهزموهم بعون الإله ورجعوا بسلام، وعينت حاكما على ذلك القطر عند ملتقى نهري سيدا (ربما النيل) وتكازى.

من هنا فإن أربعمائة سنة من حكم الأكسوميين لما بين نهري سيدا وتكازي وشرق البلاد وجزيرة مروي بأكلمها كفيلة بأن تكون جذور وأعراق سكان هذه المناطق (مُحبشنة) إن لم تكن حبشية بالكامل.

يقول مريود في مقاله المشار إليه في الحلقة الأولى: (لكنّ الجوهرىّ أيضاً فى هذا الكشف هو أنّه خوّل للبروف علي عثمان محمد صالح ولعلماء الآثار والمؤرخين والأنثربولوجيين تعضيد نظريات البروفيسور عبد الله الطيب، والبروفسير حسن الفاتح قريب الله حول هجرة الصحابة الأوائل، وهجرة جعفر بن أبى طالب إلى الحبشة، بالدلائل المادية التي لا يرقى إليها الشك، بأنّها كانت إلى السودان، وليس إثيوبيا. وأنّ النجاشىّ كان حاكم هذه المدينة، شمال “جبل أم علىّ”، ولم يكن نجاشيّا فى إثيوبيا. وهو باب يفتح كوّةً مهمة حول التأريخ المشترك لشبه الجزيرة العربية “السعودية” واليمن وإثيوبيا والسودان، ليتيح تقييم دور البحر الأحمر ودور البجا، وسكّان شرق السودان في الإسهام الحضاري في فترات مهمة.

لكن (مريود) يعود ليؤكد: لم تكن الجغرافيا هي الجغرافيا، قطعاً. ولم يكن النيل والأودية والخيران، على ما هي عليه اليوم. وبالتالي لم تكن المنطقة الراهنة ،”جبل أم علي” وما حولها من قرى ومدن هي هذه. وعليه فلا معنىً لمقاربة التاريخ وفقاً لنهر النيل الحالي.

ومن هذه الجزئية، فإنني لست مع الرأي القائل بهجرة أصحاب رسول الله إلى السودان (الحالي) بل هي إلى الحبشة (الحالية)، فمكة أقرب إلى ساحل البحر الأحمر الأرتري الذي كان يسمى بالبحر الحبشي (راجع مروج الذهب للمسعودي)، ويبدو أن الراحل عبد الطيب أطلق فرضيته تلك دون التدقيق في التحولات البيئية والمناخية، إذ اعتقد أنه لا توجد أنهار في الحبشة ما بين ساحل البحر وعاصمة النجاشي (أكسوم)، وهذا افتراض خاطئ إذ توجد أنهار موسمية ودائمة الجريان إلى الآن، ثم أن كل الكتابات والآثار التاريخية تثبت أن الهجرة كانت عبر ميناء عدوليه (عدوليس)، وهو مرسى شهير في أرتريا الحالية، يقول طرفة بن العبد في معلقته الشهيرة:

عدولية أو من سفين ابن يامن

يجور بها الملاح طورا ويهتدي

يشق حباب الماء حيزومها بها

كما قسم الترب المفايل باليد

نواصل