الصادق الرزيقي

الخُسْران المُبين ..!


> كل يوم تزداد قناعة كثير من الناس، أن الانتخابات باتت هي الوسيلة الوحيدة المُتاحة لتداول السلطة في السودان، ونتيجة للمتغيرات الجارية في الإقليم عربياً وأفريقياً، وما وصلت إليه المنطقة من توترات وانهيارات وسقوط دول في قاع التسلُّط والقهر والصراعات المُسلحة، فضلاً عن كون الحالة السياسية الداخلية هي الأخرى تُعزِّز هذه القناعات، ولم يعُد من الممكن اللجوء للعنف والعمل المُسلح أو إشاعة الفوضى للوصول إلى السلطة وتحقيق الاستقرار والأمن والسلام..
> وسيعلم الذين قاطعوا الانتخابات أيَّ منقلبٍ اتقلبت عليه الفرص المتاحة لتحقيق السلم الاجتماعي والوفاق السياسي والتراضي على نظامٍ لحكم يجنِّب بلادنا الكثير من الدماء والخراب والشقاق. فقد كان بالإمكان مشاركة الجميع في هذه الانتخابات التي تمضي حتى اللحظة بهدوء دون عوائق كثيرة، وبدأت تزداد حرارة كلما اقتربت مواعيد الاقتراع. فلو اختارت التكوينات الحزبية والقوى السياسية هذا الطريق، لجنَّبتنا الهم الأكبر في قدرة بلادنا على الصمود في مواجهة المخاطر المُحدِّقة بها وأسوأ التوقعات، حيث ظنَّ المشفقون والحاقدون على السواء يتخيلون أن السودان لن يكون جزيرة معزولة من محيطه الإقليمي المتفجر والمشتعل بالنزاعات الدامية، كما هو الحال في جواره القريب والبعيد.
> فلنتفق أولاً على فهم مُشترك، مؤدَّاه أن التبادل السلمي للسلطة عبر الانتخابات مهما كان رأينا فيها وفي شفافيتها ونزاهتها، هو أفضل مليون مرة من التناحر وسيل الدماء والمواجهات والصدامات التي تُكلفنا الكثير من الأرواح وهلاك الحرث والنَّسل وتدمير المنشآت وخرابها.. ولنتفق ثانياً أن المشاركة في العملية السياسية السلمية عن طريق الانتخابات ليس من غاياتها الفوز، فالفوز أحد الحقائق الموضوعية والنتائج المتحققة من العملية، ولكن المشاركة والانخراط في العملية نفسها، أهم من الفوز. فالأخيرة تعني تعزيز الخيار الديمقراطي وتعزيز له وتمتين لغرسه في التربة السودانية التي غاب عنها لسنوات طويلة، وتخطئ الأحزاب المعارضة عندما تقاطع الانتخابات وهي التي تدعي الحرص على الديمقراطية وتنادي بها..
> ولا يوجد اختبار وامتحان مكشوف لمدى التزام الاحزاب المعارضة بما تدعيه أكثر من اللجوء إلى الخيار الانتخابي الذي يُعطي المشروعية والشرعية لمن يصل إلى الحكم، فمع وجود انتخابات مراقبة بواسطة أكثر من ستين منظمة دولية وإقليمية وبرلمانات ومنظمات مجتمع مدني وصحافي، وتحصي أنفاسها مكاتب المنظمات الدولية والسفارات الأجنبية بالخرطوم، لن تكون على الإطلاق انتخابتت خالية من المضمون، أو لا تُحظى باعتراف دولي للنتائج التي ستتمخض عنها.
> لقد خسر مقاطو الانتخابات الكثير، فهم لن يستطيعوا التواصل مع جماهيرهم ومخاطبتها وإعادة بناء أحزابهم، إلا في الانتخابات المقبلة عام 2020م، وهي فترة زمنية ليست قصيرة، ولن تكون فيها الأحزاب كما هي عليه الآن، ولن تكون الأحزاب السياسية وقيادتها على ما هي عليه الآن، فلو مدَّ الله في آجالهم ، سيكون الدكتور الترابي قد اقترب من سنواته التسعين، والصادق المهدي منتصف السنوات الثمانين والخطيب سكرتير الحزب الشيوعي في نهاية عقد الثمانينيات، وفاروق ابو عيسى ما بعد التسعين وسارة نقد الله في خط التماس مع السبعين وغازي صلاح الدين وحسن رزق ما بعد السبعين او قريبا منها، وياسر عرمان في النصف الاول ما بعد الستين وعبد الرحمن الصادق المهدي في تماس ستينياته المجيدة، وكذلك أخواته الناشطات، وكذا الاسرة الميرغينة التي سيكون كبيرها كما الترابي والخطيب والمهدي، وسيكون الصف الاول من قيادة المؤتمر الوطني على مشارف السبعين والثمانين..
> فعندما تأتي الانتخابات القادمة، لن نجد أحزابنا كما هي. أما كان من الأفضل وبحيوية ونضارة العمر الحالي للقيادات بناء أفق جديد للسياسة السودانية وترسيخ تجربتها على الأرض وإنباتها أحسن نبات، أم أنه الإمعان في النظر تحت الأقدام ومعالجة الأوصاع السياسية بعقلية الصراع الذاتي والتناحرات الشخصية وتغليب الخاص على العام؟.
> فرصة ثمينة فاتت على القوى السياسية المعارضة، لن تعوَّض، جعلت من الانتخابات الحالية بكل ما يُقال عنها، أملاً يُسارع في الغياب ونحن في لوثة جنون الحقد والحسد السياسي، وقد غطى البصر والبصيرة عمى وغشاوة سوداء خسر منها السودان الكثير..