يوسف عبد المنان

الخرطوم تعود


في الثامن من مارس الجاري كتب الناشط الأمريكي “أليكس دوال” مقالاً عن العلاقات السودانية الأمريكية على خلفية زيارة البروفيسور “إبراهيم غندور” مساعد الرئيس للولايات المتحدة ولقاء كبار المسؤولين في البيت الأبيض.. وتناولت المواقع الإلكترونية الرصينة المهتمة بالشأن السوداني المقال.. ولم تشأ الصحافة السوداني الإشارة إليه خوفاً من تبعات متوهمة لما قد يجره على الصحيفة من رهق ومتاعب رغم أن المقال أنصف الحكومة السودانية وشدد على أهمية وجود سلطة قادرة على فرض الأمن في الدولة.. وعدد الكاتب مخاطر ذهاب الحكومة السودانية الحالية من خلال نشاط عسكري عنيف أو إزاحتها قهراً.. واتخذ د.”الواثق كمير” من شهادة “أليكس دوال” كاعتراف بأن الولايات المتحدة تدعم بقاء الرئيس “البشير” في السلطة لحسابات خاصة بالولايات المتحدة في المنطقة باعتبار أن السودان هو الدولة الوحيدة القادرة على التعاطي مع تحديات حركة (داعش) المتطرفة وحركة (بوكو حرام) التي طرقت أبواب تشاد الجنوبية.. وقال “الواثق كمير” في مقالة نشرتها أسبوعية (إيلاف) (الأربعاء) الماضي إن الأمن السوداني قادر على التعاطي مع مثل هذه الحركات المتطرفة.
و”الواثق كمير” من المثقفين الواقعيين خرج من عباءة الحركة الشعبية دون لعنها والبصق في وجهها وتلك سمة المثقف العفوي الذي يحترم تاريخه.. ولم يشأ “الواثق كمير” السير حافياً إلى دار “غندور” بشارع المطار مبايعاً، ولكنه دأب على الطرق بشدة على أبواب السلام والدعوة إليه جهراً ونبذ الحرب علناً.. وشهادة “إليكس دوال” بحق الخرطوم تعززها وقائع على الأرض حيث ينتظر اليوم أن تلتئم في الخرطوم قمة ثلاثية تضم الرؤساء “دسالجين” و”البشير” و”السيسي” للتوقيع على اتفاق بشأن تقاسم المياه التي تنحدر من الهضبة الإثيوبية ويحبسها سد النهضة قيد الإنشاء.. واتفاقية اليوم هي ثمرة لمفاوضات وورش فنية وتبادل آراء بين القاهرة والخرطوم وأديس أبابا.. وقد لعبت القيادة السودانية دوراً تاريخياً في صد المواجهة الإثيوبية المصرية وفي أخريات أيام الرئيس المصري السابق د.”محمد مرسي” الذي كان يبحث عن دور يجعله رئيساً مصرياً متفقاً عليه من كل قطاعات الشعب بعد تآكل شعبيته وهزال حكومته.. وتنامي الغضب الشعبي عليه.. سعى “مرسي” إلى فتح مواجهة مع الإثيوبيين بشأن مشروع سد النهضة ولم يصغِ “مرسي” إلى نصائح القيادة السودانية التي بذلت إليه مجاناً.. وهدد بأن مصر تستطيع توجيه ضربة إلى سد النهضة للحيلولة دون قيامه.. ولكن بعد الإطاحة بالرئيس “مرسي” ووصول المشير “عبد الفتاح السيسي” إلى السلطة وحصوله على تأييد قطاعات معتبرة من الشعب المصري ما كان “السيسي” في حاجة إلى المصريين ثبت حرصه على الأمن القومي المصري والمصالح العليا في مياه النيل.. مضى “السيسي” في طريق التفاهم مع أديس أبابا والخرطوم حتى بلغ مرحلة التوقيع اليوم على اتفاقية تنهي الأزمة التي نشبت.. وكان للخرطوم الفضل في تقريب وجهات النظر فنياً على مستوى الخبراء حيث أثبت المهندس السوداني في وزارة الري والكهرباء قدرة فائقة على قراءة الواقع والإقناع بجدوى التسويات بدلاً عن المواجهات.. ثم كانت الإرادة السياسية للقيادة السودانية للحكيم المشير “عمر البشير” في صب المياه الباردة على سخونة المناخ الذي يخيم على القاهرة وأديس أبابا جراء قيام سد الألفية.. لتوقع الدول الثلاث اليوم على اتفاقية الخرطوم لمياه النيل وبذلك تتعافى المنطقة من مكدرات الصراع وتستعيد الخرطوم بريقها القديم كعاصمة مؤهلة للعب دور سياسي واقتصادي وجسر ثقافي بين العرب والأفارقة وقد غاب هذا الدور طويلاً ولكنه الآن يعود.