جعفر عباس

هل أنا ناجح؟ لكم القرار (3)


أواصل الخواطر التي عنت لي عندما طلب مني المهندس السوداني محمد محجوب عبدالرحيم، كتابة تجربتي في الحياة لتضمينها في كتاب يعتزم اصداره بعنوان «قصة نجاحي»، ورفع معنوياتي انه اختارني لأكون ضمن قائمة السودانيين الناجحين، ومعظمهم فطاحل في ميادينهم ويحظون بتقدير على مستوى العالم، بحيث يبدو نجاحي المفترض هزيلا مقارنة بما أنجزوه وحققوه.
ولكن وبدون وقبل أن يطلب مني تلك المساهمة، فإنني اعتبر نفسي ناجحا، لأنني حققت أشياء لم أكن أحلم بها حتى قبل ربع قرن، وعندما استعيد سيرتي منذ مرحلة الطفولة ازداد اقتناعا بأنني ناجح و«نُص وخمسة كمان»، فقد فزت بمقعد في المرحلة المتوسطة من بين 80 مقعدا تنافس عليها نحو ألف تلميذ، وكان طلاب جميع المدارس المتوسطة في السودان يتنافسون على مقاعد نحو عشر مدارس ثانوية، هي إجمالي عدد مدارس هذه المرحلة في عموم بلاد السودان، و«نجحت» ضمن عدد قليل من الطلاب بالفوز بكرسي في واحدة من أعرق المدارس الثانوية في البلاد هي «وادي سيدنا» التي تم تحويلها لاحقا إلى كلية وقاعدة عسكرية.
وفي «وادي سيدنا» كان علم الجبر قد تحول إلى شفرات استخباراتية، واستحكم العداء بيني وبين الرياضيات، حتى أن أستاذي الحبيب عمر حسن مدثر الشهير بـ «عمر ماث» والكلمة الأخيرة هذه اختصار لـ «ماثيماتِكس» أي علم الرياضيات، كان يصيح في وجهي كل ما رآني داخل حجرة الدراسة أثناء درس الرياضيات «غور من وشي..»، ونلت بذلك حرية التجول والصياعة أثناء حصص الرياضيات، وكنت أفضل قضاء فترة الصياعة في المكتبة التي كانت تضم آلاف الكتب، وكلما تعمقت الجفوة بيني وبين الرياضيات توطدت علاقتي بالإنجليزية، ولحسن حظي كان جميع من درسوني تلك اللغة وآدابها في المرحلة الثانوية من البريطانيين.
وأذكر أن مستر موريسون أتانا شابا حديث التخرج من جامعة كيمبردج، وكان يجد صعوبة جمة في تدريسنا قواعد اللغة الإنجليزية (القرامر)، وكان لدينا كتاب منها اصفر اللون نسميه مورقان آند باتشلر على إسمي مؤلفًيه، وكنا مطالبين بإعراب الجمل وتفكيكها فيما يعرف بـ sentence analysis وكنت «تحت – تحت» ألتقي بمستر موريسون في العصريات في مكتبه لأشرح له بعض الدروس، وكان يصيح بين الحين والآخر: why do you bother with this kind of nonsense? لماذا تأبه لمثل هذا الكلام الفارغ؟ (فهمت مغزى تساؤله الاستنكاري لاحقا عندما عملت مدرسا للغة الإنجليزية واكتشفت ان «النحو» هو أكثر فروع المادة تنفيرا للطلاب منها فامتنعت عن تدريس قواعد اللغة الإنجليزية بالطرق التقليدية في خروج صريح عن المنهج المقرر).
ودخلت مطحنة أخرى للفوز بمقعد في الجامعة الرسمية الوحيدة في السودان (جامعة الخرطوم)، وكان قد تم فصلي من المدرسة الثانوية قبل امتحانات الشهادة الثانوية ببضعة أشهر، مع بقية قياديي الاتحاد الطلابي بسبب مناهضتنا لحكومة الفريق ابراهيم عبود العسكرية، فجلست للامتحان «من المنازل»، وحصل خير، وتم قبولي في كلية الحقوق/ القانون، ولكن عشقي للإنجليزية حملني على هجرها والانتقال إلى كلية الآداب، حيث لا جبر ولا حساب، واجتزت سنوات الدراسة بالمزيكة، ودون كبير عناء.
وفي الجامعة توسعت مداركي، وعرفت أن هناك ألوانا كثيرة من الكتب غير الروايات ودواوين الشعر تستحق القراءة، وفيها أدركت أن لغتي العربية «عاجزة»، فطفقت أقرأ كل ما يقع في يدي من نتاج الثقافة العربية، وقرأت كثيرا في الفكر السياسي، وبسبب السجالات السياسية المحتدمة في الجامعة وجدت نفسي أخوض غمارها بالإعراب عن رأيي بمقالات مطولة في الصحف اليومية، وكانت جريدة الصحافة أول من قبل نشر مقال لي، وأحسست وقتها بأنني في قامة عبدالحليم حافظ، وخاصة أن المقال كان ردا على مقال لسفيرنا وقتها في موسكو يعقوب عثمان.. رأسي برأس سفير.. يا للعظمة.

jafabbas19@gmail.com