عبد الجليل سليمان

انزلاق غضروف القضارف 1-2


الحديث ذو شجن حزين، فالمدينة البارعة والحريفة في إنتاج المحاصيل الغذائية تفعل ذلك لجهة أنه (هبة الله) إذ أكرمها رب العالمين بأراضٍ وري طبيعي مطري نظيرهما قليل على الخريطة التضاريسية والمناخية العالمية الراهنة. ولا شك في أن عبارة (لو زرعت فيها زول يقوم) تعبر مجازاً عن تلك الحظوة السماوية التي خصها بها المولى عز وجل.
كل ذلك مفرح. فلم (الشجن الأليم) إذن؟ ربما يتساءل البعض. ثم ينتظرون ريثما تترى عليهم إجابات ندَّية مهطل سماء المدينة.
بطبيعة الحال، لن تكون إجاباتنا شافية وكافية إذ ما اكتفينا برسم الواقع الرث والمرير هناك على لوحة من الكلمات – كما دأبنا هنا. فزائر المدينة لن يغفل عن تردي أحوالها وانحطاطها إلى حضيض سحيق ما أن يضع أولى خطواته على أرضها الطيبة.
كنت منذ حوالي شهر – أكثر أو أقل – هناك، زرت كثيراً من المرافق، واستمعت إلى أناس مهمين ووقفت على التدهور المريع في شتى مناحي الحياة هناك، لا ماء ولا ظل ولا شجر ولا ثمر، إذ أضحت المدينة مسرحاً عظيماً للهرج والهرجلة بعد أن سطا عليها ذوو الإلسنة الطويلة والحلاقيم الكبيرة من فقراء الخيال والكفاءة وبسطوا أذرعهم بوصيد إداراتها، وكـأن لسان حالهم يقول: (آن لأبي حنيفة أن يمدّ رجليه)، فرط اطمئنانهم على أنهم مخلدون ومكرسون على كرسي السلطة. فيا للعجب ويا للهول!
هل زرت مستشفى المدينة آملاً في العلاج؟ هل حاولت إدارة صنبور الماء لتستمع إلى الصفير والشخير؟ هل عبرت سوقها من اتجاهاته الأربعة؟ هل استمعت إلى مسؤوليها الكبار؟ هل زرت مدارسها؟ هل هناك مدينة أصلاً؟
إذاً، فلنبدأ، ولن نتوقف عن الأسئلة، ففي نهاية السنة الدراسية الماضية، تحدثنا عن طريقة إعلان نتيجة الأساس، وقلنا إن الطريقة التي اعتقدت الوزارة أنها عبقرية، طريقة عقيمة ومخالفة للتقليد السائد – وهو بالطبع ليس مقدسا وبالتالي قابل للإضافة والحذف والتعديل – فقط لابد أن يكون البديل أكثر فعالية ومصداقية وحداثة، وأن إعلان النتيجة لابد أن يعطي معلومات وإحصائيات حقيقية، فلا يمكن أن تبرر وزارة التربية والتعليم إقصاء تلاميذ أحرزوا درجات كبيرة عن قائمة الأوائل واستبدالهم بآخرين أقل درجات منهم، بأنها تفعل ذلك من أجل تشجيع تلاميذ الريف والمدراس الحكومية وتحفيزهم!
كيف تحفز شخصاً وتشجعه وأنت تخدعة؟ أي عبقرية سربلت ذهن الوزارة القضارفية فجعلتها تسدر في غيها وتكرر خطأها وتصر عليه هذا العام أيضاً؟. مثل هذه العقلية اليقينية التي لا تقبل النقد ولا التوجيه، ينبغي أن لا تدير متجراً للتوابل دعك عن وزارة للتربية والتعليم. إذا أرادت الوزارة أن تحفز وتشجع تلاميذ الريف بهذه الطريقة، فلتعلم أنها أخطأت إصابة المرمى.
لنا، عودة إلى هذا الموضوع، ولنا (عودات) إلى أزمة المياه وشح الخبز ورداءة الطرق، وقبل كل ذلك سنتجول في مكان ما يطلقون عليه (مستشفى القصارف)!

تساءلنا في حلقة أمس عن: من أين أتت وزارة التربية والتعليم بولاية القضارف بكل هذه العبقرية التي جعلتها تتصور بأنها وعبر إدراجها لتلاميذ من الريف في قائمة أوائل شهادة الأساس سيبث فيهم الحماسة ويحفزهم على التفوق؟!

تصوروا معي أنها فعلت ذلك بإقصاء تلاميذ آخرين أحرزوا درجات أعلى، أليس ذلك يُعد خداعاً وتدليساً لا يليق بوزارة للتربية والتعليم؟

إذن دعونا الآن، نقول للوزارة ما لدينا، وهذا نقاش وحوار ابتدرناه منذ السنة الماضية مع مدير عام الوزارة عبر الهاتف، ومع أستاذي عبد الكفيل العدناني هنا وفي هذه المساحة، قلنا لها (الوزارة) إنكِ إذا أردتِ أن تنهضي بالتعليم في الريف وفي المدارس الحكومية فإنه ليس من اللائق أن تطففي في قائمة الأوائل وتُخسري الميزان، عليك أن تُغطي قائمة حقيقية يكون ناتجها إحصاء حقيقي ومؤشرات حقيقية تعكس الواقع التعليمي الرث والمتردي في تلك المدينة (الثرية/ الفقيرة)، والواقع التعليمي هناك يكشف عن عجز وخلل وكبيرين، نلفت نظر المركز لتدراكه قبل وقع الفأس على الرأس، إن لم تكن وقعت بالفعل.

قلنا للوزارة إن تشجيع التعليم لا يتم بهذه الطريقة، بل بتوفير الكوادر والبنيات الأساسية، وتحفيز المعلمين والتلاميذ، و(تحبيب) هذه المهنة (الرسالية) كما في المصطلح الشائع هذه الأيام، إليهم.

قلنا كل ذلك، لكنهم اختاروا أن يسدروا في غيهم ويمضوا في طريقهم غير آبهين ولا عابئين، ليس لما نقول نحن فحسب، بل وللحقيقة على إطلاقها، فالحقيقة الماثلة تكشف عن تردٍّ وتدهور في مستوى التعليم بالولاية قاطبة والمدينة بشكل خاص، وهذا يعود إلى تلك العقليات التي تدير هذا النشاط التنموي المهم (التنمية البشرية)، تديرها بأسلوب هتافي ومهرجاني يغطي على الحقائق ويبددها ويعتم عليها.

لذلك فإن وزارة التربية التعليم بالقضارف، لن تقوى على إدراك مكامن الخلل ما لم تأت بعقليات تدير شؤونها بعلمية ومنهجية، وتعتمد في ذلك على معلومات وإحصائيات حقيقية. هذا هو الطريق الصحيح، دونه ستزل أقدامها وتسقط. وها نحن بلغ، اللهم فأشهد.

اخترنا التعليم لنبتدر به حوارنا هذا، لقناعتنا بأهميته، لجهة أنه يستهدف الإنسان وتنميته وتطويرة والنهوض به، لكن التعليم لن يفيد ما لم تكن هناك خدمات صحية تصلح للبشر في حدها الأدنى، وهذا أمر دونه خرط القتاد في ولاية القضارف، فزيارة واحدة إلى مستشفى المدينة (المجازي طبعاً) تجعلك تشعر باليأس والإحباط، وتعطيك انطباعاً طاغياً عن مدى تدهور الخدمات في هذه الولاية (المسكينة) المغلوب على أمرها.

غداً، سنرى هذا المبنى الكائن وسط سوق المدينة الكبيرة، مستشفى بالفعل، أم شيئاً آخر، كما سنسلط الضوء على خدمات المياه والطرق، وسنمضي في كشف عوار إدارة الخدمات بالولاية حتى يشرق فيها صبح جديد وتخرج من عتمتها الراهنة.