يوسف عبد المنان

في عز الليل


{ دفاتر الصحافيين تفيض بالذكريات والمواقف والشخوص وما وراء الأحداث.. ولكل صحافي قصة لم تكتب وحكاية لم تروى، وفي عز الليل كما يغني “عبد الكريم الكابلي” تنساب الذكريات وتتسلل إلى المخيلة قصص وحكايات.. لأن الليل هو الصفاء والهدوء والاسترخاء خاصة في القرى والبادية بعيداً عن صخب المدينة وأضوائها التي تبعث في النفوس القلق والرهق.. وفي الليل..
نجمة نجمة الليل نعدو
والسنين يا حليلنا عدو
وأنت ما عارف عيونك
لما تسرح وين بودو..
في مثل هذه الأيام قبل سنوات كنت في مدينة “أبو جبيهة” الواقعة في شرق كردفان الجنوبية.. أرض المانجو والخضروات.. “أبو جبيهة” الجنة كما يقول أهلها ويدعون مدينة أولاد حميد وكنانة والحوازمة.. وهي الذراع الأيمن لـ(مملكة تقلي).. هبطنا في الصباح بطائرة مروحية قادمين من كادقلي مع الشريكين والصديقين “أحمد هارون” و”عبد العزيز آدم الحلو” قبل أن تفرقهما الأيام وتباعد بينهما المواقف ويحمل كل طرف بندقيته ويصوبها لصدر الآخر.. كانت الشراكة حلماً واندثر ومشروعاً وفشل وزواجاً انتهى بطلاق لا رجعة فيه.. استقبلنا “موسى كجو” معتمد “أبو جبيهة” الذي في يوم من الأيام وقف أمام النائب الأول للرئيس “علي عثمان محمد طه” ليهاجم شخصي المسكين بلغة قديمة واتهامات غليظة.. حتى غضب “علي عثمان” رغم حلمه وسعة صدره وتصدى للمعتمد بكلمات أخرسته للأبد، وموقف “علي عثمان” حينذاك جعلني أشعر بقيمة الصحافة وأخلاق رجل دولة كان يمكن أن يصمت، ويعتبر هجوم المعتمد من الصغائر.. ولم تمض شهور حتى تبدلت لهجة “موسى كجو” مع بزوغ شمس الشراكة بين “هارون” و”الحلو”.. وحينما دخلنا دار الحركة الشعبية في “أبو جبيهة” منتصف النهار كانت الحشود الجماهيرية تسد قرص الشمس.. عرب، نوبة، فلاتة، برقو وشوية جلابة جميعهم يهتفون (وي باي).. تحدث الخطباء مادحين اتفاقية السلام ومتعاهدين على المضي نحو نهايات الفترة الانتقالية.
وفي المساء كان العشاء بمنزل المعتمد “موسى كجو”.. عشرات السيارات الفارهة تقف أمام المنزل الجنود مدججين بالأسلحة.. انصرف مولانا “هارون” بعد الساعة العاشرة مساءً ولكني بقيت في المنزل منتظراً وعداً من “عبد العزيز الحلو” بإجراء حوار توثيقي لحياته من الصغر في الفيض أم عبد الله إحدى قرى محلية الرشاد وحتى اتفاقية السلام.. و”عبد العزيز الحلو” شخصية غامضة جداً.. سريع البديهة.. قارئ مثقف جداً.. لكنه من عتاة العلمانيين المؤمنين بأن الدين يفسد الحياة السياسية.. قبل بدء التسجيل طلب “الحلو” ألا ينشر الحوار إلا بعد مراجعته شخصياً حرصاً على الحقيقة كما قال.. ومن الحادية عشرة ليلاً وحتى الساعة الثانية والنصف صباحاً تحدث “الحلو” عن نشأته وظروف تكوينه في الجامعة والشخوص الذين تأثر بهم.. ولماذا كان قريباً من الحزب الشيوعي.. ونفى “الحلو” أن يكون عضواً ملتزماً في الحزب الشيوعي، بيد أنه كان مناوئاً بالجامعة للأحزاب الإسلامية ويمنح صوته للجبهة الديمقراطية ومؤتمر الطلاب المستقلين.. وعن انتمائه للحركة الشعبية وكيف تم قبوله عضواً فيها قال “الحلو” معلومات إذا تم نشرها ستثير جدلاً في الساحة، حيث ينفى أية صلة له بالقبائل النوبية، ويقول إنه ينتمي لقبيلة (المساليت) أباً وأماً.. وكان في صغره يتحدث لهجة (المساليت) أو (رطانتهم) كما يقول العرب – ويضحك “الحلو” ويضيف: لكني تعلمت لهجات النوبة المورو والعطورو والكواليب.. وأنه عندما كان طالباً في الجامعة تقدم بطلب مكتوب من أجل السماح له بالانخراط في تنظيم خاص بأبناء النوبة، ضمن مجموعة من التنظيمات السرية التي تعمل في باطن الأرض.. وأن ذلك التنظيم أسسه “يوسف كوة مكي” ومعه “يوسف مرفعين”.. واسمه تنظيم (الكملو) تيمناً باسم المناضل “استيفن كمالو” بطل رواية (ابكِ يا وطني العزيز) للكاتب (ألن باتون).. ولأن التنظيم سري ولا يسمح بدخوله إلا لأشخاص موثوق في انتمائهم للنوبة.. فقد احتفظ بطلبه ولم يسمح له بالانتماء للمرة الأولى.. ثم تقدم بطلب ثانٍ ورفض طلبه بإجماع المكتب السري للتنظيم بحجة أن “الحلو” لا ينتمي إلى النوبة.. وفي المرة الثالثة تم قبول عضوية “الحلو” في التنظيم على أن يخضع للرقابة السرية خلال الستة أشهر المقبلة، ولا يسمح له بحضور بعض الاجتماعات.. وقال إن التنظيم السري كتب تعليقاً على طلبه الثالث يقول بما أن الطالب المذكور قد تقدم بطلبه للمرة الثالثة ولديه رغبة أكيدة في الانضمام إلينا وبما أنه لا ينتمي إلينا.. ولكن هناك أسباب تعزز فرص انتمائه للتنظيم أولاً أن “عبد العزيز آدم الحلو” لا صلة له بالقبائل العربية ووالده ووالدته من دارفور قبيلة (المساليت)، ثانياً: التزم بالدفاع عن قضايا النوبة والتضحية من أجل ما يؤمن به التنظيم، وثالثاً: عرف عن “الحلو” التزامه الشديد اتجاه قضايا العنصر الزنجي في السودان ومناهضة العرب والتيارات الإسلامية والطائفية في الجامعة.
{ لم يترك “الحلو” سؤالاً وجهته إليه في فترة دراسته بجامعة الخرطوم وانتمائه إلى الحركة الشعبية وتلقي التدريب العسكري في “كوبا”.. وشخصية “جون قرنق”.. ورحيل “يوسف كوة” بمرض السرطان وتطلعاته الشخصية في مقبل الأيام بعد (تقاعده) عن الخدمة.. وقال عن رفيق دربه “أحمد هارون” إنه رجل ذكي ونافذ جداً ولكن لا يستطيع أن يحمل قيادته العليا لتقف على ذات الأرضية التي يقف عليها.
وثمة أسئلة وأجوبة كثيرة تناثرت في ثلاثة أشرطة كاسيت احتفظ بها لمراجعة النسخة الورقية مع “الحلو” قبل نشرها في كتاب أو صحيفة.. ولكن الأمانة تقتضي الالتزام بالاتفاق الأخلاقي بيني وبينه.. وسألت “الحلو” عن الفن والرياضة والأدب.. ولم يخف إعجابه بـ”محمد وردي” والشاعر “صلاح أحمد إبراهيم” وقصيدته (ما بين موبوتو ومونفو).
أفشى جزءاً من أسرار علاقته بـ”داؤود بولاد” وكيف هرب من الموت وهو يسابق حصاناً في (وادي صالح) بعد هزيمة قواتهم في (جنوب دارفور).. مثلما تحدث “عبد العزيز الحلو” فإن هنالك أسراراً وخفايا في صدور السياسيين لا يفصحون عنها إلا عند الضرورة القصوى.. فرجل مثل “صلاح قوش” إذا تحدث بعد سنوات طويلة تصبح لحديثه قيمة لا تقدر بثمن وإذا كتب “علي عثمان” مذكراته الشخصية عن خفايا وأسرار اتفاقية السلام ونيفاشا و”جون قرنق” والمسكوت عنه في الاتفاقية، فإن ما يكتبه “علي عثمان” يصبح وثيقة تاريخية ستخرس كثيراً من الألسن التي تطاولت عليه سفاهة بعد انقضاء الفترة الانتقالية وخزائن أسرار الإنقاذ التي يصعب فتح صندوقها المغلق بإحكام “بكري حسن صالح” إذا تحدث يوماً يصمت الكثيرون وتصغي له الدنيا.. ولكن السياسيين في السودان لا يكتبون ولا يتذكرون أن التاريخ ليس ملكاً للأفراد.. وإنما للأمة والشعب والدولة.. ويأسى المرء كثيراً أن رجلاً مثل “جعفر نميري” رحل ولم يقل كلمته بعد.. وكل حقبة مايو لم يكتب قادتها إلا القليل جداً مثل “زين العابدين محمد أحمد عبد القادر” الذي كتب عن مايو سنوات الخصب والجفاف.. أما الصحافيون فإنهم عن تدوين الحقائق التي عاشوها أعجز من السياسيين، ولكن متى يقتنع “أحمد البلال الطيب” و”حسين خوجلي” و”كمال حسن بخيت” و”محجوب محمد صالح” و”فضل الله محمد” أن الذي في مخيلتهم وذاكرتهم من أحداث ومواقف مادة عالية القيمة والجودة ومن حق الشعب السوداني الذي علمهم وأدبهم وانفق عليهم رد بعض الجميل له.. وكل جمعة وأنتم بخير.