د.عبد الوهاب الأفندي

بين السادس من أبريل والثلاثين من يونيو في القاهرة والخرطوم


(1) شهد مطلع هذا الأسبوع بعض التذكر وكثيراً من التحسر في طرفي وادي النيل. مرت على الخرطوم الذكري الثلاثون لتفجر انتفاضة السادس من أبريل، واحدة من أعظم ثورات العصر الحديث: لأنها كانت سلمية بين فكي الدكتاتورية والحرب، ولأنها وحدت الشعب وأحيته، ولأنها كانت المرة الثانية خلال جيل واحد يتحقق فيها مثل هذه الإنجاز المبدع. ولكن نشوة الذكرى خالطتها مرارة عميقة ذهبت بكل بهجتها، لأنها أيضاً ذكرى ضياع كل تلك المكاسب.
(2) في المحروسة، تذكر الناس أيضاً السادس من أبريل، 2008، التاريخ الحقيقي لاندلاع الثورة الشعبية في مصر: يوم التحام شباب عالم الاتصالات الحديثة مع انتفاضة عمال المحلة الذين فاض بهم الكيل من تغول الليبرالية الجديدة والفساد القديم على معاشهم، فكانت الملحمة التي توجت في 25 يناير بأول ثورة وأعظم ثورة متلفزة في هذا القرن. كانت مصر يومها أعظم ما تكون، وأروع ما تكون: ملهمة للعالم كله، وموحدة ومعتزة بنفسها. كان ذلك يوم الخزي على المجرمين، ويوم العزة والكرامة للشرفاء (بالعكس تماماً من الحال اليوم!)
(3) في البلدين تذكر الناس كذلك الثلاثين من يونيو، يوم تبخرت منجزات الثورة، وأسدل ستار كثيف من الظلام على العاصمتين. في الثلاثين من يونيو 1989 الخرطوم، استولى الجيش على السلطة لينقذ البلاد، كما قال، من عجز وتقصير السياسيين وعدوان المتمردين الذين يريدون أن يبدلوا دين الناس ويظهروا في الأرض الفساد. وفي الثلاثين من يونيو 2013 احتشد الآلاف، ومن بينهم شباب السادس من أبريل، لاستدعاء الجيش لتولي السلطة، حتى ينقذ البلاد من عجز الساسة وتغولهم، وكذلك من الإرهابيين الذين أكثروا في الأرض الفساد.
(4) في السودان، كان الإسلاميون هم من دفع بالجيش لإقصاء حكومة اتهموها بالعجز عن التصدي لحركة التمرد العلمانية التي اوشكت أن تكتسح البلاد. وفي مصر، كان العلمانيون هم من استدعى الجيش لأن القوى السياسية كانت بزعمهم أيضاً عاجزة عن التصدي لطغيان الإسلاميين وانفرادهم بالأمر. في الحالين، ندم من استدعى الجيش. في السودان، يندب الإسلاميون حظهم ويقولون يا ويلنا إنا كنا طاغين. وفي مصر أقام شباب السادس من أبريل وغيرهم من القوى العلمانية سراداقات العزاء على الديمقراطية التي شاركوا في وأدها، ولات ساعة مندم.
(5) هل كانت مصادفة أن تطابق في شطري وادي النيل التاريخان والثورتان والانقلابان؟ في ربيع أبريل، توحدت فئات الشعب حول آمال تفتحت، وتفجرت عناصر الخير والعطاء، وتغلب الأمل والمحبة على الخوف والتوجس والكراهية. لم يكن الشباب المصري الذي تحرك في أبريل لدعم عمالها المحاصرين بالجوع والقهر يطارد مصالح شخصية، و لم يكن المتظاهرون الذين زينوا شوارع المدن السودانية والمصرية في مارس-أبريل 1985 ويناير 2011 يطلبون سلطة أو مكاسب لأنفسهم. بالعكس، كانوا يتحدون الموت لكي تحيا الأوطان، وتخرج من قمقم أقزام يحذرون أن تسمق فوق قاماتهم الهزيلة. هنا كانت قمة العطاء، وقمة البطولة، وقمة الإنسانية، وقمة المجد للشعوب والأوطان.
(6) في هجير يونيو، تبخرت الآمال والأحلام الجميلة، وساد الخوف والكراهية. نسج البعض أساطير وكوابيس حول «أفرقة» الدولة السودانية أو «أخونة» الدولة المصرية. والتف الخائفون من هذا الكابوس او ذاك حول انقلابي «منقذ»، سرعان ما كشف أنه أشد فتكاً ممن تصدى ل «إنقاذ» الناس منه.
(7) ساهمت قوى كثيرة في نسج هذه الكوابيس وهيأت الأجواء للترويج لها. في السودان، ساهم تعنت الحركة الشعبية ورفضها المشاركة في العملية الديمقراطية، وإصرارها على فرض نفسها على الساحة السياسية كحزب مسلح يطلب الهيمنة، على تغذية مناخ الخوف، ودعم الخطاب المتحصن بهوية مهددة. وفي مصر، ساهم تعنت الإخوان وإصرارهم غير الموفق على التفرد بالأمر، على تغذية أجواء عدم الثقة. فكان ما كان.
(8) للأسف، ما يزال مناخ الخوف والكراهية هو المهيمن في شطري وادي النيل، وليس عجباً ما نراه من محبة ومودة بين حاكمي البلدين، فكلاهما في الهم دكتاتور يخشى شعبه. عندما نشرت حركة شباب 6 أبريل هذا الشهر بيانها بعنوان «الانطلاقة الثامنة» على صفحتها في الفيسبوك، كانت هناك تعليقات قليلة مشجعة، وكثيرة تمتلئ بالحقد والكراهية وعدم التسامح. بعض هذه التعليقات حملت نفساً إخوانيا، واتهمت الحركة بأن يديها ملطختان بدماء الإخوان بسبب دعمها انقلاب السيسي. آخرون سخروا من عقد الحركة لقاءها في أطراف القاهرة، أو في «الصحراء» كما يقولون، مع غيابها المستمر عن ساحات المواجهة مع النظام.
(9) في ظني أن شطراً كبيراً من هذه التعليقات جاء من مصادر النظام سعياً لزرع الشقاق بين العناصر الفاعلة في الشعب المصري، وتحسباً من توحد الشعب من جديد. ذلك أن «انطلاقة» الحركة، و «توبتها» من دعم الانقلاب تستحق كل ترحيب.
(10) المناخ السياسي السوداني يفيض كذلك بخطاب الإقصاء والكراهية والنعرات الطائفية من كل لون: سياسي، عرقي، قبلي، جهوي. ولعل النظام لو سقط اليوم، ولم يصلح القوم ما بأنفسهم، فلن تقوم للبلد قائمة، ناهيك عن ديمقراطية. وقديماً قال الإمام حسن البنا لأتباعه: أقيموا دولة الإسلام في أنفسكم، تقم في أوطانكم. وقد خالفه كثير من أنصاره، فانشغلوا بإسلام الآخرين، وأصبحوا مثل بني إسرائيل، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم. ونحن نقول كذلك: أقيموا الديمقراطية في أنفسكم وفي تعاملكم مع إخوانكم في الوطن، تقم في بلادكم. فثورات أبريل ويناير لم تقم إلا بعد أن توحدت الشعوب وتآلفت القلوب، ولم تعد كل فئة تتربص بالأخرى.
(11) نخالف تي إس إليوت في ذم أبريل ووصفه بأنه «أقسى الشهور»، تماماً كما رفض المعري تجني البحتري على بغداد قائلاً: (ذم الوليد ولم أذمم دياركم/ فقال ما أنصفت بغداد حوشيتا. لئن لقيت وليداً والنوى قذفٌ/ يوم القيامة لم أعدمه تبكيتاً). ونحن نقول كذلك إن أبريل هو أروع الشهور وأجملها وأنضرها. فليصبح كل شهر أبريل، وكل يوم هو السادس منه، حتى تتفتح أزهار العطاء في الشعوب، وتنتزع أشواك الكراهية، فتزدهر الأوطان.