عبد الجليل سليمان

المقامة الوطنية الصُّفْرِيّة


استطراداً في ما ابتدرته بزاوية أمس وإيغالاً فيه، سأمضي اليوم أقتبس وأنهل من ذات المعين الذي لا ينضب، أنزل إلى منهله لأصعد إلى (مقاماته) العالية وأحسو حسوتي التي لا أظمأ بعدها أبداً.

ولما ذهبت إليه اليوم، وجدت عنده رفيقة الدائم (عِيسَى بْنُ هِشَامٍ)، فحكى لي عن ما أسماها (بديع الزمان الهمذاني) بـ (المقامة الصفرية)، فقال: “أَرَدْتُ القُفُولَ مِنَ الحَجِّ، دَخَلَ إِلَيَّ فَتَىً فَقَالَ: عِنْدِي رَجُلٌ مِنُ نِجَارِ الصُّفْرِ، يَدْعُو إِلَى الكُفْرِ، وَيَرْقُصُ عَلى الظُّفْرِ، وَقَدْ أَدَّبَتْهُ الغُرْبَةُ، وَأَدَّتْنِي الحِسْبَةُ إِلَيْكَ، لأُمَثِّلَ حَالهُ لَدَيْكَ، وَقَدْ خَطَبَ مِنْكَ جَارِيَةً صَفْرَاءَ، تُعْجِبُ الحَاضِرينَ، وُتُسِرُّ النَّاظِرِينَ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ يَنْجُبُ مِنَهما وَلَدٌ يَعُمُّ البِقاعَ وَالأَسْمَاعَ، فَإِذَا طَوَيْتَ هَذا الرَّيْطَ، وثَنَيْتَ هَذا الخَيْطَ، يَكُونُ قَدْ سَبَقكَ إِلى بَلدِكَ، فَرَأْيَكَ فِي نَشْرِ مَا فِي يَدِكَ. قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَعَجِبْتُ مِنْ إِيرَادِهِ، وَلُطْفِهِ فِي سُؤَالِهِ، وَأَجَبْتُهُ فِي مُرادِهِ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ: المَجْدُ يُخْدَعُ بِاليَدِ السُّفْلِـى/ وَيَدُ الكَرِيمِ وَرَأْيُهُ أَعْلَى”.

ومن غرائب الصدف، أنني حين أردت تحوير المقامة قليلاً لتناسب (زماننا) هذا، لم أجد عناءً وعنتاً ولم يكلني أمر التحوير إلى مشقة وبأس، فكانت المُقاربة أسهل من نظام (النسخ واللصق)، ثم كل شيء ينتهي إلى تمامه وكماله، لكن الراوي (عِيسَى بْنُ هِشَامٍ) أشار إليّ أن أهتم اهتماماً وأُعني عناية بعنوان المقامة الهمذانية فأضيف إليها وأحذف منها وأثقفها تثقيفاً وأشذبها تشذيباً حتى تتسق مع روح العصر السوداني الراهن وتنسجم معه وتندغم فيه دون (غُنة) أو عنت.

وها أنا، وبعد أن خُيّرت لزمني أن أختار، فكان العنوان المعاصر أعلاه خيار من خيارات، لكنني في واقع الأمر لم أكن بصدد تفضيله على الخيارات الأخرى لولا أنني رأيت بيت الشعر آخر مقامة الهمذاني والقائل: “المَجْدُ يُخْدَعُ بِاليَدِ السُّفْلِـى/ وَيَدُ الكَرِيمِ وَرَأْيُهُ أَعْلَى” متسقاً مع تصريح رجل معاصر وسياسي راهن من منسوبي حزب المؤتمر الوطني وقيادييه النافذين، حيث يتسنم (عبد السخي عباس) منصباً مرموقاً ومقاماً حزبياً محموداً بصفته نائب رئيس القطاع السياسي في الحزب الحاكم عن ولاية الخرطوم. هذا الرجل ذو المقام المهيب ظل يؤرقني (وينتح) في ذهني مُذ رأيته وسمعته أول مرة في مداخلة له مع تلفزيون (بي بي سي)، وسبب هذا الأرق النتّاح هو أنه كلما تحدث (حك) الجرح مرة أخرى، فها هو يعود ليحدثنا عبر يومية (الجريدة) عدد أمس، بأن نتيجة الانتخابات لم تكن متوقعة، وهذا اعتراف ضمني بفشلها، خاصة وأن حزبه زعق في الناس قبيل الانتخابات زعقة ونعق فيهم نعقة بثتا فيهم (الخلعة) والرعب، إذ قال إن عضويته بلغت الـ (10 ملايين)، ولكن ما إن بدأت الانتخابات حتى اختفت الملايين العشرة وكأنها (شالها القاش) بحث مأثور مولانا الميرغني في سابقة انتخابية.

بدا لي حديث (عبد السخي) عن بأنه حزبه بصدد البحث عن أسباب ضمور التصويت، هل ناجم عن شعور عام بعدم جدوى الانتخابات أم إخفاق حزبي، وكأنه يَدْعُو إِلَى الكُفْرِ، وَيَرْقُصُ عَلى الظُّفْرِ. كما قال الهمذاني، بيد أن الحقيقة تكمن في العنوان أعلاه.