د.عبد الوهاب الأفندي

بين محاكمات مصر وانتخابات السودان


(1) في أعقاب انقلاب عسكر الجزائر على انتخابات عام 1991، نشرت صحيفة «لوموند» الفرنسية رسماً كاريكاتورياً يظهر فيه متسابقان وهما يتأهبان عند موقع كتب عليه «نقطة الانطلاق»؛ وفي الجانب الأيمن من الصورة رسم لشخص مربوط إلى عمود بينما يستعد جنديان لإطلاق النار عليه، وقد كتب عليه: «نقطة الوصول». وتحت الصورتين كتب: انتخابات الجزائر.
(2) يبدو أن زمان جعل الفوز الانتخابي أقصر الطرق إلى السجن أو القبر لم يول بعد، كما يذكرنا «الأشقاء» في المحروسة عبر المحاكمات الهزلية المأساوية لمواطنين مصريين جريمتهم الكبرى أن الشعب انتخبهم، واعتقاد مستهدفيهم أنه سينتخبهم مرة أخرى. وعندما يعتقد البعض أن مساعي إبادة من اختارهم الشعب ستجعل المرفوض منهم شعبياً معبود الجماهير، فهو يثبت العكس. لأنه لو كان يثق بأي رصيد شعبي، لكان تحدى خصومه ـ وهم أحرار- إلى منازلة شعبية، يكون نصيبهم فيها الخيبة والإقصاء بأمر الشعب. ولكنهم يعلمون ما نعلم.
(3) يذكرنا ما تشهده مصر بمساعي جناح «الاستئصاليين» في السلطة الجزائرية لإبادة التيار الإسلامي عبر العنف والقمع وإغلاق المجال السياسي بصورة شبه كاملة، وبالتوجه المماثل في تونس بن علي. ويبدو أن الخطة المصرية هي التضييق على الإسلاميين لدفعهم إلى العنف حتى يبرر قمعهم باسم محاربة الإرهاب. وقد كشف السيسي نفسه عن هذا الأمر حين طلب من الشعب «تفويضاً» لـ «محاربة الإرهاب» في حين كان الإخوان يتظاهرون سلمياً في رابعة، وكذلك حملت شاشات تلفزته شعارات «محاربة الإرهاب» كما فعلت أمريكا بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، ولكن قبل سقوط أي برج!!
(4) خيب الإخوان أمل الاستئصاليين فلم يلجأوا إلى العنف، وحسناً فعلوا. ولكن حتى لو تفجر العنف، كما حدث في سوريا والجزائر، فإن هذا لا يعني بالضرورة إعطاء النظام رخصة للإبادة. فها هو العالم كله يقف مع المعارضة المسلحة في سوريا. وقد انقرض استئصاليو الجزائر واضطر بوتفليقة للتفاوض مع جبهة الإنقاذ. فهذه الخطة الشيطانية، والمفلسة اخلاقياً، فاشلة مقدماً، حتى لو نجحت في تفجير العنف كما أريد لها.
(5) أحبابنا في السودان لم يقعوا في خطأ قرنائهم في مصر (وبئس القرين)، بل رأوا أن الوقاية خير من العلاج، وأن القمع الاستباقي، على سنة طيب الذكر مبارك، أقل كلفة. وكان مبارك يقول لأصدقائه الأمريكان كلما نصحوه بتوسيع الحريات: هل تريدون أن يأتي الإخوان إلى السلطة؟ فيسكت هؤلاء بحسب الراوي.
(6) السؤال أمام مبارك كما البشير والسيسي هو الآتي: إذا كانت جهة بقيت في الحكم ربع قرن (وفي حالة مصر ستة عقود)، ومع ذلك يفضل الناس المعارضة عليها، أليس من الأكرم للجميع أن تعلن هذه الجهة فشلها وتتفضل مشكورة إلى جزيرة نائية للتقاعد المريح؟
(7) في العادة يزين الدكتاتور وأنصاره باطلهم بالقول بأن هناك ضرورات استثنائية تتطلب وجود حاكم حازم يتصدى لهذه الأزمة أو تلك. ثم بعد فترة قصيرة تعود الأمور إلى نصابها، ومعها الحريات والديمقراطية. ولكن التجربة الإنسانية (والعربية والافريقية خاصة)، كشفت باضطراد أن «المستبد» لا يكون عادلاً، وأن الأمور تحت حكمه تتدهور إلى الأسوأ. وهكذا ظل السودان ينتقل من كارثة إلى أخرى، وكذلك مصر التي شهدت كوارث في الماضي، وللأسف يبدو أنها مقبلة على ما هو أسوأ. ولن يذكر أحد الدكتاتور بخير بعد زواله (كم مصري صوت للحزب «الناصري» حتى بعد أن غير جلده وأصبح ليبرالياً خليجياً؟)
(8) المأساة هي أن الكل يعلم أن هناك خيارات أفضل. في مصر، نصح البرادعي وغيره الانقلابيين بانتهاج التي هي أحسن في التعامل مع خصومهم، مما كان سيحقن كل هذه الدماء ويوفر على مصر كلفة غالية في الدماء والثروات، ولكن غلبت عليهم شقوتهم وكانوا قوماً ضالين. وفي السودان ايضاً، نصح كل الخلصاء حكام البلاد بتجنب هذه الانتخابات العبثية، لأن احداً لن يعترف بها. ولكنهم ركبوا رأسهم، فجاءت الانتخابات خزياً وعاراً عليهم بعد أن أعرض عنها حتى أنصار النظام.
(9) كنت قد كتبت على موقع الـ«واشنطن بوست» ومواطن أخرى بعد بداية الانتخابات أقول إن هذه انتخابات ستكون شرعية النظام بعد الفوز فيها أقل من شرعيته قبلها. ولكن حتى في أسوأ توقعاتي لم أكن أعتقد أنها ستكون كارثة على النظام بهذا الحجم. فقد أصبحت الانتخابات التي أرادها النظام استفتاء أشبه بما سماه أنصار النميري «مظاهرة الردع» التي أرادوا فيها حشد أنصارهم في مقابل المظاهرات الشعبية التي طالبت برحيل النظام. ولكن الفشل الذريع لتلك المظاهرة جرأ الخصوم أكثر، فكنسوا النظام كنساً. ولعل المفارقة هي أن الشخص الذي اختاره النظام لإدارة لجنة الانتخاب كان من عرابي تلك المظاهرة الفاشلة، فيكون له فضل المساهمة في إسقاط نظامين مستبدين، كما كان عليه عار خدمتهما لقاء ثمن بخس دراهم معدودات.
(10) من طبيعة من حرم الهداية أن يجرب كل الخيارات المدمرة قبل أن يعود مرغماً إلى جادة الصواب، هذا إذا لم يهلكه جهله وضلاله. فلماذا يهدر الحكام الموارد في قمع مواطنيهم بدل أن يتعاونوا معهم في البر والتقوى؟ لماذا يعتقل ويعذب خيرة شباب الأمة، ويقصي ويهجر أهل العلم والبلاء، والبلاد في أمس الحاجة إلى خبرتهم وجهودهم؟ ويكون هذا الإهدار مضاعفاً لأننا نعلم علم اليقين أنه، وبعد إهدار كل هذه الأرواح والموارد والجهود واعمار الأمم، ستعود الأمور إلى نصابها، وتتنزل على الظالمين اللعنات، ولا تذكرهم الأجيال اللاحقة إلا بكل سوء. فلماذا لا يختصرون الطريق؟


تعليق واحد

  1. لماذا يا دكتور دائما الهجوم فقط علي الحكومة السودانية ؟؟؟ نعم لها بعض الاخطاء ولكن معارضتنا اسوا المعارضات في التاريخ…
    ماذا تطلب كبديل للانتخابات والكل يعلم انها ستكون بهذ الكيفية قبل بدايتها ؟؟؟ معظم اصحاب العقول يقولون بالحوار وهو منهج الحكومة ولكن لايمكن ان تجمع معارضة السودان علي شي واحد الي ابد الابدين وهم انفسهم لن يتفقول علي شئ اطلاقا لذا من ينتظر الحوار فهو واهم وهي احلام زلوط …. ارجو تقديم مقترح واضح ولا تكون ممن يكرر بديهي الكلام مغلف بالنقض بدون مقترحات