مقالات متنوعة

انس العاقب : برامج الغناء في شهر رمضان


يبدو أننا إعلامياً فيما يخص برامج رمضان إذاعياً وتلفزيونياً صرنا كالغراب الذي أراد أن يقلد مشية الطاؤوس فلما عجز عنها نسي مشيته الأصلية وهذا الواقع البئيس يذكرني بإعلامنا المسموع في مقتبل خمسينات القرن الماضي قبل ظهور التلفزيون حينما لم يكن لإذاعة أم درمان منافس سوى ثلاث إذاعات مصرية هي القاهرة (البرنامج العام) وإذاعة صوت العرب وإذاعة الشرق الأوسط التي كانت تبسط هيمنتها البرامجية في شهر رمضان على مستوى العالم العربي في ظل الإنفتاح الإعلامي الكاسح لثورة يوليو1952 لقد كانت تلك الإذاعات تحفل ببرامج متنوعة جذابة ومن أهمها وأكثرها جاذبية تلك المسلسلات التي كانت تتبارى فيما بينها لتقديم مادة درامية إذاعية بأصوات أشهر نجوم السينما والمسرح للدرجة التي طغت فيها مسلسلات رمضان بإرتفاع مستواها الفني فتحولت لاحقاً إلى أفلام ومسرحيات بعد إنقضاء شهر الصوم.
ولما كانت البرامج الإذاعية المصرية يبدأ سباقها فيما بينها بعد الإفطار مباشرة ومع الفرق الزمني بينها وبرامج إذاعة أم درمان فقد أتاح ذلك أن تجعل مؤشر بث برامجها يبدأ بنحو ساعة قبل الإفطار مع ثبات ميقات بث المسلسل السوداني الذي كانت له حظوة وإهتمام كبيرين عند جمهور المستمعين على إمتداد القطر فكان بإستطاعته إلتقاط بث الإذاعة على الموجات القصيرة والمتوسطة وكانت برامج الإذاعة تقدم لمستمعيها بعد المسلسل برامج دينية قصيرة وتلاوة تسبق الإفطار ودعاء ومدائح ثم ينتقل المؤشر مباشرة للمسلسلات المصرية التي كان مبرمجة بحيث يمكن متابعتها متتابعة أو إنتظار إعادتها في المساء والسهرة.
كانت برامج إذاعة أم درمان بعد الإفطار تميل إلى المنوعات الموسيقية من مقطوعات موسيقية وما كان يسمى وقتها موسيقى الأغاني التي تنفذها أوركسترا الإذاعة تحت إشراف الأستاذ برعي محمد دفع الله والأستاذ علي مكي وبقيادة الأستاذ العاقب محمد حسن رحمهم الله وأحسن إليهم ثم كانت البرامج المسائية تتنوع بين اللقاءات السريعة والحوارات وإعادة المسلسل اليومي والبرامج الدينية والتاريخيه وآسف ألا تسعفني الذاكرة بتفاصيل برامج السهرة لأن أغلب المستمعين كانوا يتابعون برامج السهرات في الإذاعات المصرية إلى ما بعد السحور ولكن من المؤكد أن الغناء في إذاعة أم درمان لم يكن يشكل وجوداً في برامج الظهيرة والمساء ولربما تغير الحال الآن فصار للغناء والمنوعات والترفيه مساحة زمنية مقدرة في البرامج الإذاعية الرمضانية قبل ظهور إذاعات (الأف أم) وتناسلها بكثرة وتركيزها البرامجي على الغناء بلا توقف ظناً منها أن ذلك جاذب للمستمعين جالب للإعلان وقد حدث نفس الشيء للتلفزيون القومي عندما كان هو القناة الوحيدة بالبث الأرضي أو الفضائي فكانت برامجه تنسجم مع وقار وجلال وروح شهر رمضان مع إتزان في النظرة لبرمجة مادة ترفيهية في الأفلام الأجنبية والسهرت الدرامية والبرامج الكوميدية.
وبإنطلاق قناة النيل الأزرق ظهر فجأة برنامج (أغاني وأغاني) الخطير الذي قلب كل موازين وقواعد البرمجة الرمضانية بإحتلاله المساحة الكاملة بعد الإفطار إلى حين بث صلاة التراويح حين يتجمع الصائمون راحة وشغفاً غير معتاد لمتابعة برنامج غنائي مخدوم بعناية فكان من أبجديات التنافس والتقليد أن تنتقل العدوى لأغلب الفضائيات السودانية الأخرى في تسابق محموم نادر بين كل القنوات الخارجية الصائمة عن الغناء التي ستستعد لها الطواويس أيما إستعداد لتفطر به في عيد الفطر وسوف لن يتبقى للغربان في العيد شيئاً من الغناء سوى أن تقصع الجرة وكأن شهر رمضان هو العام بأسره.