مقالات متنوعة

ابراهيم عثمان : في شيزوفرينيا الخطاب “الثوري” السوداني


أسست الحركات المتمردة أسطورتها السياسية على دعوى التهميش . و لكن تنظير الحركات مضطرب جداً فيما يخص تحديد المهمِّشين و المهمّٰشين . فهي لأغراض التجييش الجهوي و العنصري تخاطب جماهير المناطق التي تنشط فيها عسكرياً لإثارتها ضد “المركز” مستغلةً في ذلك قضايا فرعية و جزئية و مخاطبةً انتماءاتها الأولية الجهوية و القبلية و العشائرية في الوقت الذي تقول أنها تريد أن تؤسس لسودان جديد ينعم فيه الجميع بالمساواة في إطار أيديولوجيا عقلانية تحديثية للإرتفاع من مستوى الروابط الأولية إلى الرابطة القومية الجامعة التي تتأسس في الأصل على نقيض ما تمارسه الحركات فعلاً . و لأغراض تكبير الكوم تحاول أن تخاطب ذات المناطق و القبائل التي تتهمها بتهميش الآخرين بأنها هي نفسها ضحية تهميش يمارسه النظام الحاكم ، مما يقدح في أسطورتها الأصلية و يعيد توصيف طبيعة الصراع ليصبح صراع بين كل جهات و قبائل السودان و النظام الحاكم . مما يحيل الأمر إلى مجرد معارضة للنظام الحاكم الحالي و يهيل التراب على كل نظريات الغبن التاريخي . و الإضطراب في خطاب التهميش يعود إلى محاولة الحركات الجمع بين ما يحققه خطاب المظالم التاريخية من مكاسب عند تسويقه لدى الجمهور الأصلي الذي تخاطبه الحركات ، و بين الخطاب الآخر الذي يقول كلنا مهمشون و ما يحققه من مزايا . و لكن مع هذا الإضطراب يمكن بسهولة ملاحظة أن خطاب المظالم التاريخية هو الأكثر انتشاراً بين مؤيدي التمرد . و لذلك فإن خطاب التمرد الذي يحمل الوعد لبعض الفئات يحمل في ذات الوقت الوعيد لفئات أخرى ، الأمر الذي تسعى الحركات للتخفيف من وقعه بالإضطراب المصطنع في خطابها الذي يهدف إلىى إزالة مخاوف ( الظلمة التاريخيين “قبائل و جهات ” ) من مشروع يعمل على كف (ظلمهم) بقوة السلاح . لا يمكن محاربة العنصرية بخطاب عنصري مضاد ، خاصةً إذا كانت العنصرية التي يُراد محاربتها يُلجأ لإثبات وجودها إلى سلسلة من عمليات التضخيم و الإختلاق ، و إذا كانت العنصرية “الثورية” المضادة معطى يقيني تُعبر عنه طبيعة الهياكل و المؤسسات ، و نظرة سريعة لقيادات الحركات و جنودها و جمهورها تكشف عن أن كل حركة هي في النهاية تعبير عن عنصرية ضيقة جداً تصل في بعض الحالات إلى حد أن تكون الحركة ممثل لبطن أو فخذ من قبيلة ، أو حتى أسرة . فالعدل و المساوة مثلاً لم تجد بعد موت خليل من يخلفه سوى أخيه ! و العنصرية لا تقتصر على الخلفية العرقية للمكون البشري للحركات بل و تتغلغل بعيداً في قلب الخطاب السياسي رغم محاولات النفي المتكررة .. و الإضطراب لا يقف فقط عند محاولات الإحتواء الفطيرة للجهات و القبائل التي وضعها حظها العاثر في طريق نظرية مسلحة ، تطلق أحكامها و نظرياتها بذات الطيش و التهور الذي يطلق به جنودها الصواريخ . و لكن الإضطراب يصل إلى أبعد من ذلك بمحاولات جعل نظرية الغبن التاريخي السهلة التسويق ، هي حصان طروادة الذي يحمل ( العلمانية و الماركسية المتأمركة و أطروحات الفجر الجديد ) البائرة و الصعبة التسويق . و الواقع يثبت أن نظرية التهميش لا تقوى ساقيها على هذا الحمل الثقيل الذي يخلق حاجزاً مضاعفاً ( بجانب الحاجز العنصري ) بينها و بين عامة الجماهير .
و الحركة الشعبية بإعتمادها العمل المسلح ضد كل الأنظمة المتعاقبة ربطت صورتها في اللاشعور السياسي الجمعي بكل مآسي الحروب ، ( القتل و التشريد و تخريب المنشآت و نهب القوافل التجارية و اختطاف العاملين في مشاريع التنمية و ترويع المدنيين و التخابر و الإرتزاق … الخ ) ، و الحركة الأم أتيحت لها الفرصة لتقديم المثال في الجنوب الذي تنفرد بحكمه منذ عشر سنوات ، و لكنها بدلاً من أن تقدم المثال قدمت الأمثولة ، إذ أشعلت الحرب من جديد لأن الذي تعود على تحقيق مطالبه بقوة السلاح لن يتسع أفقه السياسي لحل الخلافات السياسية بالحوار وحده و لا يلجأ للحوار إلا مضطراً بعد أن تفرضه معادلات الميدان .. النقاء الثوري اللفظي لدى قادة هذه الحركات تقابله أفعال الحركات التي تذهب بعيداً في كسر كل التابوهات ، فما من مجال إلا و قد إرتكبت فيه الحد الأقصى من الأعمال المنافية لكل الأعراف ، و بينما تظل مآخذ الحركات على النظام إتهامات ينفيها النظام أو يقلل من حجمها أو يتحدث عن معالجة ما يعترف به منها ، فإن الحركات لا تكاد تنفي تهمة من التهم الرئيسية ( خاصةً تهم العلاقات المشبوهة مع الدول المعادية و تلقي دعمها و مساعدتها في مؤامراتها ضد البلاد ) ، بل تتفاخر بها و لا تعدم المبررات التي تتناسب مع هشاشة أخلاقها “الثورية ” .. فالمنظومة القيمية الأخلاقية “الثورية” لديها تحتمل ، و دون شعور بالحرج ، قتل الأبرياء و النهب و السلب ، و إقامة العلاقات الوثيقة مع إسرائيل و مع اللوبي الصهيوني .. و لتبرير العلاقة تتسلل بين مفردات الخطاب الثوري التحرري مفردات التسليم بالواقع حتى لو كان يمثل الظلم في أكثر صوره وضوحاً .. بل يصل الأمر إلى ما هو أبعد من مجرد التسليم ، فيصل إلى مرحلة الغزل و التمجيد و الإعجاب و تلقي الدعم . هذه المنظومة القيمية المطاطة يتعايش في ظلها الخطاب الماركسي اليساري التحرري مع الخصوم التاريخيين لهذا الخط الفكري دون أن يجرح ذلك حساسيتهم الثورية ، فمناهضة السلوكيات و التدخلات الإمبريالية التي كانت تشكل لحمة هذا النوع من الخطاب و سداته ، أصبحت شيئاً من الماضي و أصبحت التدخلات مطلوبة لذاتها و بإلحاح غريب … هذه المنظومة لا يستطيع أي من المؤمنين بها أن يدلنا على موقف فرضته قوتها الأخلاقية كان فيه شهامة ثورية أدت إلى رفض أي عمل خارجي معادي . و المناسبات التي اقتضت شيئاً من ذلك كثيرة . فمثلاً في حادثة العدوان الإسرائيلي على مصنع اليرموك ، كانت هذه الحركات أكثر حماساً للضربة من إسرائيل نفسها ، إذ صمتت إسرائيل الرسمية و لم تتبنى الضربة و لم تجهد نفسها في تبريرها لعلمها أنها مدانة أياً كانت المبررات ،بينما تصدى هؤلاء للمهمة و قاموا بها بأحسن مما كانت ستفعل إسرائيل نفسها ، اعترافاً بإرتكابها للجريمة و سوقاً للمبررات ، بل و احتفالاً بالعدوان. ! .. لا توجد نقطة قصوى يقف عندها التمرد و يقول على الأقل سأمسك لساني و لن أعارض أو أؤيد عملاً قد يتضرر منه الوطن قبل النظام . و من يعلم تلك النقطة فليدلنا عليها .
تتضح هشاشة الخطاب الثوري في طريقة التعامل مع المخالفين داخل الحركات ، فتاريخ الحركات ملئ بالتصفيات الدموية لمن خرجوا عن طوع القيادة أو تظلموا أو جاهروا برأي مخالف .. ناهيك عن الذين ينشقون عن الحركات و ما يواجهونه من قتل و تصفية . و هناك شهادات موثقة عن السجون الرهيبة للحركات و عن المحاكم الإيجازية الميدانية التي لا تتوفر فيها أدنى مطلوبات العدالة .. و قد كانت قمة التراجيكوميديا الثورية في مفاوضات الدوحة حينما أصرت حركة العدل و المساواة أن المنبر منبرها و أن البوابة الوحيدة للولوج إلى طاولة التفاوض هي بوابة الإندماج في حركة العدل و المساواة ، لم تقل أن المصلحة تقتضي الإتفاق على وفد مفاوض يمثل الحركات كلها أو على موقف تفاوضي موحد ، و لم تقترح اندماج الحركات لتكوين جسم جديد يعبر عن جملة رؤاها .. بل أصرت على أن تندمج كل الحركات في العدل و المساواة ! .. هذا نموذج لمواقفهم تجاه الآخر الذي يفترض أنه شريك الثورة و النضال في قضية المشاركة في المفاوضات ، فكيف سيكون موقفهم إن تمكنوا من السلطة في مواجهة أطياف سياسية متعددة و بعضها تتصادم رؤاه مباشرة مع رؤى الحركة ؟! .. و أكبر دليل على أن المناصب هي الشغل الشاغل للحركات هو تعدد الحركات للقضية الواحدة دون مسوغ موضوعي اللهم إلا رغبة القادة في أن يكون كل منهم رئيس لحركة .. فمعظم الإنشقاقات وسط الحركات تحدث على خلفية الصراع على المناصب القيادية . و المناصب وحدها كانت هي سبب عودة مناوي و أبو القاسم إمام الحاج و الحركة الشعبية إلى التمرد مرة أخرى .
الجهاز المفاهيمي الذي تقارب به الحركات مشاكل السودان جهاز زئبقي مطاط يستطيع أن يسوق الدليل الواحد ليؤيد به القضية و نقيضها و تحتمل ذائقته الأخلاقية الثورية مثلاً إقامة العلاقات مع جهات هي بكل المقاييس تقف على الجهة المضادة لخطاب المظلومية الذي تتشدق به .. مثلاً احتلال هجليج بواسطة الجبهة الثورية و جيش الجنوب لمصلحة الجنوب بدا في بيان عرمان الشهير كذروة من ذرى الفعل الثوري الجسور، بينما هو يمثل أقصى درجات الخيانة و العمالة العلنية ، و الحجة المركزية التي استند إليها في إستنكاره لغضبة الحكومة السودانية ( طبعاً تجاهل عن عمد أن الغضبة كانت غضبة شعب بكامله ) كانت هي قوله بأن هناك مناطق أخرى ( كحلايب ) محتلة فلماذا لا يعلو صوت النظام تجاهها كما حدث في هجليج ؟ بينما يخلو سجل نشاط الحركة الشعبية عندما كانت الشريك الرئيسي في الحكم من أي ذكر لقضية حلايب ! و بينما كانت علاقة الحركة الشعبية مع مصر عند احتلال حلايب في أفضل حالاتها ، و لا يستطيع أي من قادة الحركة أن يدلنا على مظهر واحد من مظاهر توتر علاقة حركته مع مصر بسبب حلايب منذ احتلالها حتى الآن . و حتى لو سلمنا لهم بأن الحكومة قصرت في ملف حلايب فهل كان المطلوب من الحكومة أن تتساهل أيضاً في قضية هجليج ؟! و التدليس في الحجة المستندة على حلايب واضح جداً ، إذ لا يحدد معظم الذين يثيرونها في مثل هذه المواقف – عدا عرمان طبعاً – حقيقة مرادهم ، هل المطلوب أن تغضب الحكومة لإحتلال حلايب و أيضاً لإحتلال هجليج ؟ أم المطلوب هو ألا تغضب لهجليج كما لم تغضب لحلايب “حسب دعواهم” ؟ . فإن كانت الأولى ، فالأولى هو الإشادة بغضبتها لهجليج ، و اللوم على ما يدعونه من تهاون في حلايب . و في هذه الحالة فإنهم كانوا سيشاركون الشعب غضبته .. و أما إن كانت الثانية – و هي كذلك – فإن حلايب كان يجب أن تُستحضر في مشهد هجليج كموضوع للإشادة ! كيف لا و أنت تغضب لغضب الحكومة من إحتلال هجليج ؟!
الحركات المتمردة التي تنافق الغبش ” المهمشين” لا تفعل سوى أن تزيدهم غباشاً بما تخوضه من حروب تكون ساحاتها هي ديارهم و شوارعهم و مزارعهم و مدارسهم ، و تضاعف غبشهم بمحاولات تغبيش وعيهم و جرهم إلى صراعات تخدم أجندة لا ناقة لهم فيها و لا جمل ، و تسرق أملهم في مستقبل أفضل لأبنائهم فتسوقهم إلى معاركها الخاسرة طوعاً أو كرهاً ، بينما معظم أبناء القادة يعيشون حياة مرفهة في الدول الغربية و بعض العواصم الإفريقية ، و لم نسمع في يوم من الأيام بأن إبناً من أبناء هذه القيادات قد “استشهد” ، فهم مشغولون عن “الشهادة” بالشهادات . و الذمة المالية لقادة الحركات مجروحة و الشهادات حولها كثيرة ، سواء فيما يتعلق بمصادر الدعم أو أوجه إنفاقه . و جملة أداء هؤلاء القادة و مواقفهم لا تعطينا أي مؤشر على أن هناك خط أحمر يجعلهم يرفضون أي دعم مهما كانت الجهة الداعمة و أجندتها . يؤكد ذلك عمليات النهب المتكررة لممتلكات الغبش .
ألفجر الجديد و القهر الأيديولوجي
عندما قدمت الحركات وثيقتها التي تؤسس للفترة الإنتقالية ، قامت بحشد كل مواقفها القصوى في الوثيقة ، و لم تعبأ بالقاعدة البديهية التي تقول بأن فترات الإنتقال لا يمكن أن تُحكٓم بالتصورات الأحادية المتطرفة ، و أنها مرحلة التوافق و برنامج الحد الأدنى الذي يخاطب انشغالات الجميع ، و أن المشاريع ذات القسمات الأيديولوجية الفاقعة تأتي في مرحلة التنافس الإنتخابي . فإذا كانت الحركات ترى بأن تلك الوثيقة العنصرية العلمانية الماسة بوحدة البلاد هي برنامج الحد الأدنى الذي ستقبله في المرحلة الإنتقالية ، فما هو شكل برنامج الحد الأعلى الذي ستطرحه على الناخبين ؟ و إذا كانت الحركات و هي مطاردة و مهزومة في معظم مسارح العمليات ، ترى بأن ما معها من سلاح يكفي لأن تستأسد على أحزاب المعارضة و تلزمها بهكذا برنامج حد أدنى ، فما هي طريقة تعاملها مع هذه الأحزاب إذا تمكنت من الإستيلاء على السلطة ؟ و هل سيكون هنالك أصلاً مجال للحديث عن برنامج حد أدنى ؟ .. و إذا قسنا هذه الوثيقة إلى البديهيات التي تقول بأن أي إنسان أو كيان يرتكب من الأخطاء أكثر مما يعترف به ، و أكثر بكثير مما يبشر به ، و أن تجويد الكلام و ضبطه أسهل بكثير من ضبط الفعل ، و أن الأفعال تبتذل الأفكار مهما كانت مثالية ، و أن إطلاق الوعد أسهل من تنفيذه خاصةً إذا كان وعداً مثالياً ، فكيف يكون الحال إذا كان الوعد نفسه في غاية القبح و الدمامة ؟
أموال القهر و أموال التآمر لصناعة الثورة :
الحركات الثورية التي ترى أن حمل السلاح ضد النظام في الخرطوم مبرر مهما كانت قضية حامله ، تقوم في ذات الوقت بممارسات خارج السودان تعاكس تماماً هذا النوع من المنطق الثوري ، معظم الحركات إن لم يكن جميعها تورطت بشكل أو آخر في قمع حاملي السلاح في دول الجوار ، ليس المهم لديها طبيعة الأنظمة الحاكمة في هذه الدول و مدى اقترابها أو ابتعادها عن النموذج المثالي الذي تدعي أنها تحمل السلاح في السودان من أجل الوصول إليه ، و الذين يتمثلون أفكار جيفارا و يحاولون صناعة نسب بين ثوريته و أفاعيلهم إنما يهينونه و يهينون الفكر الثوري في كل زمان و مكان ، إذ لن يفكر شخص في تمويل ثورته من قمع نظرائه في دول الجوار إلا إذا كان يعلم في قرارة نفسه أن أسطورته الثورية قد بلغت مبلغاً من الهشاشة إلى الدرجة التي تجعله يظن أن قوتها الذاتية لن تكفي لتسري مفاعيلها على الواقع ، و لذلك فهو على استعداد لممارسة كل ما يضادها حتى يفرضها بقوة الإنتهازية لا قوة القضية . فالسلاح لدى الحركات هو رأسمالها الأهم الذي يملأ شقوق النظرية و يعالج ركاكة قيمها .