أبشر الماحي الصائم

عز الدين السيد.. ذاكرة وطن


لما كنت أزور الرجل الوطني الضخم عز الدين السيد، الذي رحل عن دنيانا الفانية هذه الأيام عليه من الله الرحمة والرضوان، لما كنت أزوره بمنزله بحي نمرة اثنين الثري الشهير بالخرطوم، منذ نحو شهور قليلة, وجدت نفسي وقلمي وملاذاتي أمام كنز وطني وتاريخي عظيم, على الأقل إن الفقيد قد جايل عصوراً وطنية بأكملها, وذلك من لدن الزعيم الأزهري حتى يوم الإنقاذ هذا مرورا بكل مايو, وكنت يومها برفقة الأخ الأستاذ عبدالوهاب محمد أحمد, أحد أفضل من خبر دهاليز سيرته الغزيرة, لدرجة أن أبناءه قالوا إننا لا نعرف سيرة والدنا الممتدة كما يعرفها الأخ عبدالوهاب, الذي لم يكن مجرد مدير مكتب للراحل ببرلمانات حقبة مايو فحسب, بل جمعتهم كثير من الأشواق بدءاً من هموم وطنهم الصغير وهم ينحدرون يومئذٍ من منطقة دنقلاوية جهيرة السيرة والتطلعات, إلى سعة قضايا بلد بحجم السودان, على أن الراحل عز الدين لم تسعه برلمانات بلده على تعدد حقبها، وهو يرتاد مقعد رئاسة اتحاد البرلمانات الدولي أول رئيس من العالم الثالث, فضلا على أنه قد عرف الطريق إلى منابر البرلمانات منذ العام 1965 عضواً في أول جمعية تأسيسية سودانية ثم برلمانات مايو التي أصبح أشهر رؤسائها وصولا للمجلس الوطني, فتستطيع – يارعاك الله – أن تقرأ تاريخ السودان الحديث من خلال تصفح سيرة الراحل الممتد, ولك أن تتخيل أن الراحل هو من أسس وزارتي الصناعة والتجارة, فله من المجايلة ما لم يتوفر لأي كادر سوداني معاصر, فعلى الأقل هو من تربى وترعرع سياسيا على يد الجيل السوداني الذهبي, جيل الأزهري والمحجوب وزروق وعلي عبد الرحمن وعاصر عبد الخالق محجوب ورفاقه, ثم عاش كل مايو بتقلباتها اليسارية والوسطية والإسلامية, وكان رئيساً للبرلمان الخامس الذي أرسى قوانين الشريعة الإسلامية وامتلك الجرأة ليلقي بالخمور في عرض النهر, قال لنا فيما قال يومها: لست أنا من وقعت بيدي على قيام جامعة أفريقيا العالمية فحسب, بل من اخترت موقعها الحالي جنوب الخرطوم, ولكم أن تتخيلوا حجم كوادر الدعوة الإسلامية الذين انطلقوا من هنا ليضيئوا مجاهل القارة السوداء, هو ذاته عز الدين السيد الذي ارتبط اسمه بمجموعة مؤسسات تعليمية ومصرفية وخدمية خيرية و.. و..
* يومها لم أملك إلا أن أتحسس قلمي حتى ﻻ يفوتني شرف أن أخذ شيئاً من هذا البحر الزاخر, غير أن طبيعة الزيارة لم تكن تسمح بأكثر من إلقاء نظرة على كتاب هذه بعض عناوينه وفصوله, كتاب ﻻ يقبل التقليد والتزوير نفدت نسخته الأصلية .
* برغم أن الأخ عبدالوهاب طمأنني بأن هنالك كتاباً قيد الطبع يحوي تجربته البرلمانية, غير أنه بتقديرينا لم يكن بمقدوره هذا الكتاب مهما اتسع أن يضع هذه المسيرة الوطنية الباهظة بين دفتيه, وقد كتب تحت تأثير المرض وتراجع الذاكرة, ويفترض أن مهمة التوثيق هذه مهمة مؤسسات رسمية لرجل هو بعض ذاكرة وطن, غير أن فضائياتنا تحتاج لعقود بأكملها حتى تفرغ من التوثيق لناشئة المطربين, الواعدين والموعودين الذين يتوعدوننا في نجوم الغد.. لدرجة هتاف الراحل الهادي آدم: أغداً ألقاك يا خوف قلبي من غد!!
ألا رحم الله فقيدنا رحمة واسعة وألهم آله الصبر الجميل وأبدلنا خيرا.. وﻻ حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.