جعفر عباس

ليس على الساقطة حرج


كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل عن الرجل «ألَهُ حرفة؟» فإن قالوا لا «سقط من عيني»، وكنت خلال إقامتي في بريطانيا أنظر إلى الصحيفة التي يمسك بها من يجلس جواري في الحافلة أو القطار، فإن كانت «ذا صن»، سقط أو سقطت من عيني، ذلك أنني كنت ولا أزال اعتبر تلك الجريدة «ساقطة» لدأبها عل نشر صور لفتيات شبه عاريات في صفحتها الثالثة يومياً، ولكونها معنية بنهش لحوم المشاهير، ولا تخلو بقية صفحاتها من صورة أو خبر يخدش الحياء، فحتى العائلات البريطانية المحافظة لا تسمح بدخول تلك الصحيفة بيوتها (يملكها اليهودي روبرت ميردوك الذي اتضح أن صحيفة نيوز أوف ذا ويرلد التي كانت ضمن مجموعة الصحف التي يملكها قد حوكمت بالتنصت على هواتف سياسيين وضحايا الجرائم وحوكم القائمون عليها بالسجن واضطر ميردوك الى إغلاقها)
.. ولهذا لم يدهشني أن تنشر تلك الصحيفة صوراً لصدام حسين وهو بسرواله الداخلي، بل لم أغضب من الصحيفة، قدر غضبي من العسكري الأمريكي الذي خان أمانة حراسة رجل، بأن كمن له والتقط له صورا في أوضاع مختلفة، بغرض تسريبها وبيعها. نعم استطيع أن أقول بكل ثقة أن صن دفعت ما لا يقل عن مليون إسترليني نظير تلك الصور، وليس على الصحيفة كبير حرج، فمن يعمل في مجال الإعلام يعرف كيف يمكن أن يكون الإعلامي ضعيفاً أمام غواية «الفرقعات»، حتى وهو يعرف أنها جوفاء، فما بالك بصحيفة ديدنها نشر العورات على بلكوناتها المطلة على الشوارع!
ونشر صورة شخصية عامة بملابسه الداخلية أو بدونها لا يختلف كثيراً في نظري عن التجسس على شخص وهو يلبي نداء الطبيعة في دورة مياه! ورغم أنني لم أهلل ولم أصفق لصدام حسين طوال حياتي، بل كنت أرى فيه طاغية باطشاً حول نفسه إلى صنم انسياقاً وانسجاماً مع العرف السياسي العربي، إلا أنني شعرت باشمئزاز شديد من استغلال غفلته وهو سجين، لغايات تجارية، من قبل جهات أعطت نفسها حق الوصاية على صدام والشعب الذي كان يحكمه، مع وعد بنشر التنوير والتحرر والانعتاق والشفافية، فإذا بالتنوير يعني وضع الأسرى تحت «الأنوار» الكاشفة لحرمانهم من النوم أو التلصص على عوراتهم، وإذا بالتحرر انفكاك من كل قيد أخلاقي، وإذا بالانعتاق عتق مؤقت من قبضة باطشة، توطئة للوضع تحت قبضة طائشة لشخص متجرد من الأخلاق، وإذا بالشفافية هي جعل الجسد مكشوفاً بالملابس الشفافة وإذا لم تتوفر فبتجريده من الملابس.
ما فعلته صحيفة ذا صن البريطانية ينسجم وأخلاق العولمة التي تسمح بتسليع كل شيء، أي جعل كل شيء قابلاً للبيع إلى سلعة، وربما لا يدرك كثيرون أن قطار العولمة وصل بلداننا رغم بعد المسافة بينها وبين القرن الحادي والعشرين، ففي معظم البلدان العربية هناك مسابقات لملكات الجمال، وعلى الراغبة في الفوز أن تعرض سلعتها لتقنع هيئة التحكيم بأن مؤهلاتها من أرداف ونهود أفضل من مؤهلات منافساتها، بل إن لبنان ينظم «ملك جمال الرجال» وهناك برامج تلفزيون الواقع التي باتت دول ظلت توصف بالمحافظة تتبارى لاستضافة فعالياتها.

يعني نصيبنا من العولمة حتى الآن اقتصر على كشف اللحوم وتضاريس الجسوم، أما عندما تتحول العولمة إلى عواصف رعدية خلال السنوات القليلة المقبلة فلا أظن ان هناك دولة عربية قادرة على الاحتفاظ بمكانتها حتى على الأطلس.. كلها كم سنة وتروح خصوصياتنا وثوابتنا (التي ما ثبتنا عليها يوماٍ) أدراج رياح «تجارية غربية» بزوال الدولة ذات السيادة.. أما رأيتم كيف أرغمت أوربا تركيا التي يحكمها حزب «إسلامي» على سحب قانون بحظر الدعارة قبل سنوات قليلة؟

jafabbas19@gmail.com