مقالات متنوعة

محجوب حسين : مكافحة الفساد في السودان


لم يتذمر الشعب السوداني طوال سنوات حكم الأوليغارشية والثيوقراطية السودانية التي تمضي بزيف شعاراتها نحو ثلث قرن لماهية تجسيد رسالة نظمها المنتجة على الجغرافيا السودانية كمثل تذمره من السرقة التي وقعت على مقدرات وطنه الإقتصادية وقيمه الأخلاقية التراثية والإجتماعية والحضارية والتاريخية، تشكلت في شكل نظم قانونية أو عرفية أو ثقافة قيمية مجتمعية تعمل على حصانة تلكم القيم.
في عهد الزيف الجديد ومجهوداته الرامية دوما نحو شرعنة الزيف لبناء أو تأسيس واقع مزيف كشأن الملهاة التي شهدتها البلاد تحت «إستحقاق النصب» مؤخرا لتنصيب قائد العرش الأمبراطوري الذي حاز لبلوغ دورته الثلث قرنية على إرادة الشعب السوداني نصبا وقابلته الجماهير بالسخرية واللامبالاة …. مشهد ليلة النصب الكبرى، فيها «الإمبراطور» تقدم الحضور الكبير في فضاء مؤسسته البرلمانية التي حولها إلى برلمان للوطني عوض برلمان الوطن، يعمل على التشريع وإجازة إستحقاقات ما يطلبه أو يتطلبه الإمبراطور،
في ليلة النصب على الإرادة الجماهيرية السودانية، لم يهتم السودانيون بمساحيق التجميل التي عمدت أجهزته إنتاجها وتصويرها كمنتج جديد قابل للإستهلاك، ولا أيضا على ما جاء في متن خطابه الذي قدم من ذات القاموس القديم /الجديد، أيضا لم يهتم بما تلاه على القسم الدستوري من تعهدات وإلتزامات بينه والله ومع الشعب.
محل الإهتمام الذي توقف فيه الشعب السوداني، هو فيما أعلنه الرئيس الذي يبحث عن شرعة لوجوده وأمام الملأ عن قيام لجنة عليا وبصلاحيات واسعة لمحاربة أو مكافحة الفساد في السودان وبرئاسته، وبإعلانه هذا تكون البلاد قد عرفت خلال سنوات حكمه العديد من اللجان الوطنية لمكافحة الفساد وبرئاسات لشخصيات متعددة، لم يعرف مصير أحد منها ولا إنجازاتها وتحقيقاتها أو جدول أعمالها وصلاحياتها، كما لا يعرف الشعب السوداني أن محاكمة وقعت لأحد أعمدة الفساد خلال العقدين والنصف أو قل حتى محاكمة صورية أو إعلامية، حيث غالبا ما يقع الفساد محلا للحماية بل الحصانة، إذ كيف لنا أن نحاكم أيديولوجيا الدولة والحكم، بل كيف للدولة والأيديولوجيا أن تحاكم نفسها…..هو الشأن ذاته لجرائم الحرب وضد الإنسانية والإبادة وحقوق الإنسان والحريات….إن الأمر لا يتعلق بإختلالات في النسق الإداري بل هي بنية فوقية توجه جميع الأنساق وتعمل على سيادة قيم الفساد الذي يبدأ سياسيا ويمتد للأنساق الأخرى مخلفا مظاهره المختلفة .
مراكز قوى الفساد السياسي والأمني والإقتصادي هي اليوم التي تؤسس لمنظومة الإستبداد والإقصاء بأيدولوجيا تنبع من أسس طبقية فئوية، ليست فلسفية وفكرية، هذه المنظومة هي التي حددت جهاز البشير التنفيذي والحكومي الوزاري، بل جاءت معبرة عن مراكز هذه القوى في محاصصة لأجنحة الفساد. إن أيديولوجيا الحكم السياسي في السودان معناها جني المال عبر طرق غير شرعية، تصادر فيها كل ناتج فائض قيم الشعب، إنه يعيش ويعتاش على ما ينتجه الشعب السوداني، هو عالة عليه وليس منقذا له. أما اليوم، على إثر تولي رئيس الدولة مهام رئاسة محاربة الفساد قد يتحول الأخير لحماية جادة حقيقية وقانونية وتحت واقع مأسسة وتقنين للفساد الذي هو بنية فوقية مكتملة الأركان، تعمل وتسري على الجميع، في قوالب ومنحنيات لا أحد يستطيع أن يوقف تمدده وهيمنته على واقع السيطرة للمتمكن بتمكينه للفساد شكلا ومحتوى.
في هذا السياق، جاء في تعليق لمواطن السوداني قائلا «إن أزمة الفساد هي في رئاسة البشير لهيئة محاربة الفساد»، هذا التعليق وإيحاءاته تعكسه اللافتات والشعارات التي رفعتها ثورة سبتمبر ضد حكم الرئيس السوداني قبل عامين مثلا «لن يحكمنا لص كافوري» وكافوري هو موقع «الإمبراطور» السوداني في الإقامة وصناعة القرار والعيش وحاشية الفساد حوله. قلنا في هذا الإطار وفي مقال تم نشره على هذه الصفحة في أواخر العام 2013 مقالا تحت عنوان «الفساد عنوان ضخم لفصول وهوامش مقروءة ومرئية … في الإنقاذ السودانية» أنها إستطاعت ضمن سياسة الاستيلاء والإمساك بجميع مفاصل الدولة، لاسيما الأمنية والاقتصادية والمالية بشكل خاص، والغرض من ذلك تفكيك المجتمع وإعادة تشكيله من جديد وبولاءات لا تستطيع الإفلات من بنية الطبقة الرأسمالية التي تكونت حديثا، هذه الطبقة الجديدة أصبحت هي الدولة العميقة والظاهرة لتؤسس علاقاتها مع المجتمع بناء على علاقة المالك والعامل، فالعلاقة العقدية القائمة مع الدولة ليست على أساس مبدأ المواطنة والحقوق والواجبات، وإنما على أساس التبعية والسخرة والحاجة الاقتصادية لكسب الولاء والطاعة في جميع أجهزة الدولة والقطاعات المدنية الأخرى، وبالذات الأمنية والعسكرية منها، وفجأة أصبحت قوة عمل وعطاء القطاعات العاملة في الدولة وغير الدولة تعود لفائدة القوى المسيطرة ـ عوض الدولة ـ التي بنت رأسمالية خاصة لها، من خلال الناتج العام للدولة الذي وقع في شرك المصادرة والابتلاع لفائدة الحزب والأخير للطبقة الرأسمالية الإسلاموية الجديدة».
(القدس العربي)