حيدر المكاشفي

في تذكر العلامة عبد الله الطيب


عبر مقاله الذي نشرته هذه الصحيفة على جزأين، نبهنا وذكرنا البروف عبد الرحيم خبير بالذكرى الثانية عشرة لرحيل العلامة الفذ البروف عبد الله الطيب طيب الله ثراه، ففي مثل هذه الأيام وتحديداً في اليوم التاسع عشر من العام ثلاثة وألفين؛ غادر عالمنا الفطحل هذه الفانية عن عمرٍ ناهز الثمانين عاماً أفناها في محراب العلم والتعليم ومؤسساته، فأعطى وأجزل العطاء ولم يستبقِ شيئاً، خاصة في مجالات الإنسانيات واللغويات والآداب وصار فيها مرجعاً لا يجارى وعالماً قلَّ من يضارعه وانعدم من يبذه، وهذا بحر عريض لا قبل لي بالخوض فيه وأحق به من درسوه ودرسوا على يديه وتأملوا في ميراثه العلمي الوافر والزاخر، وحسبي من هذه السيرة العامرة والذكرى العطرة، أن أذكر شيئاً من لطائفه وطرائفه مشاركة متواضعة مني بمناسبة ذكراه، فللبروف رحمه الله عشرات المواقف والمقولات والتعليقات الساخرة واللطيفة والطريفة، فهو إلى جانب اشتهاره بالحذاقة والصرامة العلمية، كان ودوداً ولطيفاً ومتواضعاً دائم الابتسام، وكان له ميل غير خافٍ إلى الفكاهة الذكية والمفارقات المضحكة وله دراية بفنونها ويحفظ كثيراً من النوادر الشائقة ويرويها بطريقته السلسة الجذابة، كما كانت له قفشات يطلقها في فصول الدراسة وأثناء إلقائه محاضراته، تضيف للطلاب شيئاً جديداً وتروّح عنهم في آنٍ معاً.

رُويَ عنه أنه كان مرة جالساً يستمع إلى المذياع في معية مجموعة من الأساتذة وكان في تلك اللحظة خطيب سياسي يتحدث في المذياع كان يملأ فمه بالكلمات التي تفضح فقره في اللغة بصورة مزرية، الأمر الذي أثار امتعاض البروف فصاح (هذا لا يخطب وإنما يبعّر)… فما تراه يقول الآن بعد أن تكاثر المبعّرون وملأوا الفضاء والأوراق البيضاء بالبعر؟ ورُويَ عنه أنه روى بنفسه ذات مرة قصة ناظر المدرسة الذي كان يغلقها بأية حجة حتى ينصرف لهواياته، وعندما يسمع بحضور المفتش إلى المدينة التي كانت قريبة من القرية التي تقع فيها المدرسة، كان يهرع إلى فتحها وينبه التلاميذ للحضور باكراً، وحدث بالفعل أن حضر المفتش وبعد أن استقبله الناظر في المحطة أخذه رأساً المدرسة، وعند باب المدرسة كانت تجلس (ست النفر) المرأة العجوز التي تبيع الفطور للتلاميذ وكانت من أكثر المتضررين من قفل المدرسة، وعند مرور المفتش والناظر من أمامها، طنطنت قائلة (خلاص شفتو جا وفتحتها)، والمفتش الذكي يلتقط العبارة ويسرها في نفسه، وبعد أن فرغ من مهمته وقفل راجعاً إلى المحطة في صحبة الناظر، شكا له الناظر من تأخير ترقيته وقال يستعطف المفتش (يا جنابك ما تنساني في التقرير)، بعد أن وضع المفتش رجله على سلم القطار التفت ناحية الناظر قائلاً له (التقرير ما كتبتو ست النفر).

للبروف الكثير والكثير من اللطائف والطرائف والملح الذكية، حسبنا منها لضرورات المساحة ما ذكرناه، ونختم بالقصيدة الحلمنتيشية التي تنصب البروف في مقام شيخ مشايخ هيئة حلمنتيش، ذلك لسبقه السابق في مثل هذا النظم… ومناسبة القصيدة أن أحد الأساتذة ببخت الرضا لاحظ أن هناك بيتاً خالياً فطلب من المستر هودكن مدير المعهد أن يخصصه له، فجاءه الرد مخيباً بأن هذا البيت Technicaly vacant، فراقت العبارة لعبد الله الطيب وجعل يتندر بها على زميله شعراً فقال:

البيت دا خالي، وقالوا خالي تكنكالي

يا رضا ما كنت قايل حكمك إنت كلاريكالي

كنت قايلك إنت فاهمه وكل شيء منك ليبرالي

البيت ده خالي وشايفو واقف فزيكالي

قالوا مسكون قلنا سحقاً للكلام الننسكالي… إلى آخر هذه القصيدة التي مزج فيها بين الإنجليزية الرصينة والدارجية الفصيحة.

وآخر دعوانا أن اللهم ارحم عبدك عبد الله الطيب، وعافه وأعف عنه، وأكرم نزله مع الصديقين والشهداء والصالحين.