تحقيقات وتقارير

(داعش) في السودان ملف أمني؟ أم مأزق فكري؟


{ في زمهرير نهارات رمضان ودرجة حرارة الطقس فوق الخمسة وأربعين درجة، وشوارع الخرطوم خالية من الراجلين على الأقدام.. وفي طريقي عابراً إحدى الطرق .. توقفت سيارة معتمة الزجاج.. ترجل منها د. “عصام أحمد البشير” الذي بطبيعة الحال (يراني ولا أراه).. بقامته القصيرة وحرارة عناقه.. واحترامه لمن هو أدنى منه مقاماً .. أخذني إلى تحت ظلال شجرة وريفة ليسأل عن الأسرة وقد طال الفراق وتباعدت المسافات حتى صلاة (الجمعة) أصبح “عصام البشير” خطيباً في مسجد النور بكافوري ونحن في أطراف المدن.. سألت الرجل العالم المثقف الذي يمثل تيار الوسطية الإسلامية ما بين السلفية الجهادية.. والحركة الإسلامية الحديثة والتيارات الصوفية.. ويسار اليمين الإسلامي (داعش)، وما أدراك ما (داعش)، سألت عن اللقاءات التي جرت بينه ود. “محمد علي الجزولي” في محبسه قبل إطلاق سراحه من قبل الأجهزة الأمنية التي ظلت تتحفظ عليه لشهور طويلة لأسباب سياسية وفكرية .. لم يشأ د. “عصام أحمد البشير” الرد على البيان الذي أصدره د. “محمد علي الجزولي” بعد الخروج من السجن من خلال مبادرة د. “عصام البشير” والتي كشف د. “عصام” أنها مقاربات وحوارات فكرية جرت خلف أسوار المعتقل لمراجعة أفكار د. “الجزولي” .. حيث اتفقنا على ثلاث قضايا جوهرية أولها أن إعلان الجهاد مسؤولية الحاكم وليس الرعية.. وتقع على عاتق رئيس الدولة وأجهزته إعلان الحرب على دولة ما .. وعلى الرعية السمع والطاعة والاستجابة لدواعي الجهاد .. ثانياً أن فكرة الدولة الإسلامية والخلافة في الوقت الراهن مسألة غير عملية ولا تمثل أولوية.. ولا فريضة على المسلمين إتباعها .. وثالثاً أن الغرب ليس شراً مطلقاً .. هناك غرب معادٍ للعقيدة الإسلامية وهناك غرب لم يحاربنا في ديننا !! وقال “عصام”: بعد مراجعات عميقة بيني ود. “محمد علي الجزولي”، وفي حضور ممثل لجهاز الأمن والمخابرات اتفقنا على ضرورة نبذ العنف وأن لا يجعل الفرد أو الجماعة من أنفسهم حكاماً في وجود الحاكم المكلف الشرعي.. وبعد تلك المراجعات تم إطلاق سراح “محمد علي الجزولي”.. ورفض د. “عصام” التعليق على البيان الذي أصدره “الجزولي” بعد إطلاق سراحه ملتمساً للدكتور العذر ربما لتأثير شهور الاعتقال وضرورة أن يقول شيئاً لجماعته التي هبت لاستقباله. ولم تمض أيام على خطوة الإفراج عن الزعيم الأصولي “الجزولي” الذي يتهم على نطاق واسع بأنه الزعيم الروحي (للدواعش) في السودان وهو الذي يتحدث جهراً مبرراً لسلوك (داعش) ومحفزاً إياها على المضي في منهج الجهاد والقتال وطرح نفسها بديلاً عن كل التيارات الإسلامية الأخرى.. لم تمض أيام وقد كشفت السلطات السودانية عن التحاق عدد من طلاب وطالبات جامعة العلوم الطبية “مأمون حميدة” بحركة (داعش) في سوريا من خلال تهريب الطلاب والطالبات عبر مطار الخرطوم إلى تركيا ومن ثم الالتحاق بحركة المقاومة في الأراضي السورية .. د. “عصام أحمد البشير” يعترف بأن هنالك أسباباً أدت لتنامي التيارات المتطرفة في الوطن الإسلامي وهو وطن معنوي يمتد من شيلي في أمريكا الجنوبية وحتى اليابان.. وأهم الأسباب الإحباط الشديد الذي تفشى وسط الشباب المسلم من بؤس التجارب وعمقها وفشلها في تلبية أشواق المسلمين .. والهجمة الغربية على الإسلام مما أدى لردة فعل أكثر عنفاً .. ولم يشأ د. “عصام” الاعتراف بأن غياب الحركة الإسلامية المعاصرة عن الحياة العامة.. وانصرافها لشؤون الحكم وعائدات الحكم والدفاع عن السلطة قد أفرغ ميادين الفكر من وجود للتيارات المستنيرة.. وغشيت الساحة تيارات الإقصاء والإلغاء.
وتبعاً لعاصفة (داعش) التي هبت على بعض مؤسسات التعليم العالي جاء في أخبار (الخميس) الماضي أن السلطات الأمنية استعادت في الساعات الأولى من فجر الخميس ثلاثة من الطلاب الذين غادروا البلاد مؤخراً للانضمام لتنظيم (داعش)، وأن الذين تمت استعادتهم طالبة وطالبين تمت إحالتهم للتحقيقات وتم الإفراج عن الطالبة ظهر أمس.. وقضية انضمام الطلاب لحركة (داعش) قضية لها تبعات أمنية وسياسية وفكرية فالأمن والشرطة مطالبين بسد الثغرات ومعرفة الطريقة التي غادر بها الطلاب مطار الخرطوم.. هل وفق الضوابط أم هناك (اختراق) تم لأجهزة الرقابة والتدقيق؟؟ وإذا ما توصلت السلطات الأمنية لسلامة الإجراءات التي اتبعها الطلاب في المغادرة فإنها ستخلي سبيلهم لتبدأ مهمة جهات أخرى معنية بالقضية؟؟ فالطلاب الذين استهدفوا تم انتقاؤهم من بين الطلاب، فقد (تخيرت) الجهات التي استقطبت الطلاب والطالبات الأذكياء والنوابغ من طلاب كلية الطب والذين لم يتبقَّ لهم إلا أياماً محدودة ويتخرجوا أطباء.. وذلك للاستفادة منهم في علاج الجرحى والمصابين.. وجامعة مثل العلوم الطبية لا يطأ أسوارها أبناء عامة الناس من سكان القرى والفقراء الذين لا يملكون قوت يومهم .. هي جامعة لأبناء الأثرياء والمترفين من التجار والمغتربين والأطباء والسفراء.. وتنتهج الجامعة سياسات تعليمية صارمة جداً تحظر ممارسة النشاط الفكري والسياسي الشيء الذي جعل طلابها (منغلقين) فكرياً ولم يتعرفوا على جدل الهويات والثقافات ومنابر الفكر ليختاروا ما يروق لهم .. وهم في سنوات التشكيل الثقافي ..حرموا من كل شيء إلا المال الذي بين يديهم والسيارات الفارهة التي يجوبون بها الطرقات. وتسلل لأسوار الجامعة أحد الفلسطينيين حسبما قال د. “عصام أحمد البشير” في حديثه وأخذ في تجنيد الطلاب والطالبات!
السؤال لماذا فشلت حركة (داعش) في اختراق أسوار جامعة مثل الخرطوم وأم درمان الإسلامية؟؟ هذه الجامعات مفتوحة النشاط الفكري والثقافي وتموج بداخلها مدارس سياسية من اليسار واليمين وطلابها يتعرضون يومياً لاختبارات عميقة ويتخيرون من بين الرؤى والأفكار كلٌ ما يروق لهم ويعتقدون أنه الصواب.. لكن جامعات الأثرياء التي يتوافد عليها أبناء المغتربين وحملة الجوازات الأجنبية تحظر النشاط السياسي والفكري وتحرم الطلاب بذلك من حقوقهم الطبيعية وتجعلهم عرضة للاستقطاب من جهات متطرفة.
مأزق الإسلاميين؟
إن انتشار حركة (داعش) في السودان لا يمثل تحدياً أمنياً فحسب فالانتماء الفكري لأية جماعة من حقوق الإنسان المنصوص عليها في الدستور ما لم يرتكب هذا الشخص جريمة يعاقب عليها القانون، فلا جناح على الطلاب اختيار ما يروق لهم من البضائع الفكرية والثقافية التي يسوّق لها أصحابها .. لكن مأزق الإسلاميين الحقيقي في السودان أن الساحات الطلابية أصبحت في الفترة الأخيرة مرتعاً خصباً لتيارات التطرف من (داعش) و(طالبان). و التيارات السلفية الجهادية والسلفية التربوية.. وحتى جامعة الخرطوم حيث الاستنارة يمثل التيار السلفي ثاني أكبر كتلة في الجامعة بعد الإسلاميين الوطنيين والذين شغلتهم مساندة الدولة والتطلع للحكم ومغانم الدنيا ونعيم السلطة ومباهج الحياة عن التوعية والتنوير.. وسط قطاعات الطلاب، حيث يهتم الآن قطاع الطلاب بحزب المؤتمر الوطني بالسيارات والدور الفارهة والرحلات الخارجية أكثر من اهتمامه باستقطاب الطلاب حديثي العهد بالجامعات. ولم يعد مركز (العيلفون) مدرسة لتدريب الطلاب وتنمية مهاراتهم وتغذية عقولهم بالأفكار والرؤى مثلما كان من قبل .. وطغى على سلوك الطلاب سلوك السلطة وأدبياتها .. وانشغلوا بغير ما نذروا أنفسهم عليه، لذلك تنامت التيارات المتطرفة في ظل الضمور الخطير في الفقه السياسي والإداري التنظيمي وعدم التوازن بين فقه المبدأ وفقه المنهج .. وساد الساحة نقص واضح في الوعي التاريخي الذي يمكن من الفصل بين الدين والتدين وبين المبدأ الشرعي وتجسيده التاريخي وقد تخلفت الثقافة السياسية للإسلاميين وفي العالم الإسلامي عموماً مما جعل بعض الإسلاميين أسرى لصور تاريخية يائسة من القيادة، وبذلك تحولت مبادئ الإسلام السياسية الجليلة كالشورى والأمانة والقوة والعدل والطاعة إلى شعارات مجردة بدلاً من أن تكون دليلاً عملياً هادياً، وقد اختزلت قوى التطرف وإلغاء الآخر الإسلام في نماذج شديدة البؤس والظلامية والافتقار إلى الأفق الذي يقودها لتحقيق النجاحات . فتجربة طالبان في أفغانستان قد فشلت في بلوغ مقاصدها وأهدرت كفاح سنوات وجهاد سنين في سلوكيات بدائية وجدت المقاومة حتى من عامة المسلمين قبل الغرب المتربص وليس بعيداً عن ذلك المنهج التيار السلفي الكلامي الذي شغل شباب الإسلام بأدب المرافعات ورد الشبهات والايجابية العلمية وأصيبت بعض الحركات الإسلامية بأمراض الفكر الإطلاقي الذي لا يولي اعتباراً للواقع العملي وينشغل بالتغني بالمبادئ الجليلة ولا يفكر في المناهج العلمية العملية. وتجسد كتب الشهيد “سيد قطب” الفكر الإطلاقي الذي يريح النفس ولكنه لا يقدم حلولاً يدين الواقع الظالم ولا يقدم حلولاً لتغيره .. ولكن الإمام “حسن البنا” كان رجلاً عملياً ويصبح دائماً في الشباب (كونوا عمليين) (لا جدليين) وقد أورث الجانب العملي في فكر “حسن البنا” حركة الإخوان زخماً في الشارع العربي وكتب لها الشيوع والانتشار في كل مكان .. واليوم تنهض حركة النهضة في تونس برؤيا مختلفة رؤية فلسفية عميقة.. جعلت النهضة تحافظ على الديمقراطية كقيمة حضارية في كنفها تتنامى تيارات الوعي الإسلامي على حساب وجودها في السلطة ولكن التجربة الإسلامية في السودان جعلت السلطة والحفاظ عليها هي القيمة السامية والمثال الذي ينبغي الموت دونه..لذلك الآن تبنت في تربة السودان حركة داعش التي تمثل اختباراً حقيقياً لفكر الحركة الإسلامية وقدرتها على مقاومة التيارات الظلامية أكثر من كونه تحدياً أمنياً لكيفية سد الثغرات ومنع الشباب من التسلل خلسة للانضمام إلى داعش!1
الحرب على الكرمول
لأن المهندس “عبد الواحد يوسف” جاء للسياسة من المؤسسة العسكرية حيث ترقى في جهاز الأمن والمخابرات حتى رتبة العميد، فإن الرجل مسكون بهاجس بسط الأمن في ولاية شمال دارفور منذ أن تم تعيينه في المنصب الرفيع خلفاً للسلطان “عثمان يوسف كبر” الذي حكم الفاشر لمدة (13) عاماً من خلال التدابير السياسية والخطابات الجماهيرية وسياسة البيت المفتوح والقلب المشاع.. و(استرضاء) الغاضبين و(الزعلانين) وقد حققت تلك نجاحات متفاوتة.. وجاء “عبد الواحد يوسف” (حلاً) لثلاث مشكلة الأولى قضية “عثمان كبر” و”موسى هلال” الذي ظل في بادية شمال دارفور غاضباً على بقاء “عثمان كبر” لأكثر من عامين.. وبإعفاء “عثمان كبر” من منصب الوالي، اعتبر “موسى هلال” أن مشكلته قد انتهت وعقدته قد حلت. ثانياً لابد من وجود شخصية قادرة على مواجهة لتمردات الداخلية والانفلات الذي تعيشه مدينة الفاشر بسبب وجود مليشيات شبه حكومية وقوات لحركات متحالفة مع الحكومة .. ثالثاً وضع حد نهائي للصراعات القبلية التي تنامت في شمال دارفور بين الرزيقات والبني حسي`ن حوى مناجم الذهب في محلية السريف وبين البرتي والزيادية في شرق دارفور.. وفي الأسبوع الماضي كشف الوالي “عبد الواحد” عن وجهه العسكري بإعلان حزمة من التدابير والإجراءات الداخلية للقضاء على التفلت داخل مدينة الفاشر .. وعلى طريقة جنوب دارفور حظرت أوامر الطوارئ التي أعلنها الوالي ارتداء الكدمول التشادي وهو عمامة الطوارق أو سكان الصحراء اتخذها التمرد الدارفوري (لباساً) لهم منذ سنوات وصارت ثقافة غامضة وهي تخفي ملامح الأشخاص.. لذلك كل الجرائم التي ترتكب في دارفور يقوم بها (ملثمون) بالكدمول.. وجرت عمليات تفتيش دقيق للسيارات داخل مدينة الفاشر الشيء الذي وجد الارتياح من الأهالي والتشجيع رغم أن عمليات تفتيش السيارات في المدن يقابلها الناس بالتذمر والرفض لسرعة إيقاع الحياة .. وحظرت الأوامر الصادرة من الوالي ركوب أكثر من شخص في الدراجة البخارية.. ومنع لبس الكاكي إلا من قبل الجهات المخول لها ذلك.
وأثمرت الإجراءات التي اتخذت عن انخفاض نسبي في عدد الجرائم اليومية بمدينة الفاشر ..ولكن التحدي الكبير الذي يواجه السلطة هناك هل تستطيع محاكمة بعض الجهات ذات الصلة بالحكومة مثل المليشيات الحليفة.. ومنسوبي الحركات التي وقعت على اتفاقيات السلام وقد بلغ الأمر أن والد تلميذ بجنوب دارفور حمل بندقيته وجاء للمدرسة وهدد المعلمين بالقتل إن تعرض ابنه لعقوبة تربوية بالجلد مرة أخرى مثل سائر التلاميذ !! فهل يستطيع والي شمال دارفور أن يجعل الناس سواسية أمام القانون ويفرض هيبة الدولة ويبسط العدل حتى يستقيم حكمة على جادة العدل والمساواة بين الناس.


المجهر السياسي