مقالات متنوعة

منى عبد الفتاح : تونس… نقطة التلاشي


جمع ما بين مصر وتونس من قبل، انتقال جامعة الدول العربية إلى الأخيرة، على إثر زيارة الرئيس المصري السابق، أنور السادات إلى إسرائيل، قبل عودتها إلى مقرّها الدائم في القاهرة عام 1990.
استطاع الدبلوماسي السوداني، جمال محمد إبراهيم، التعبير عن الحالة العربية، بالشكل الروائي الأقرب إلى الواقع في عام 2008. وما بين ذاك التاريخ والآن تلتقي الأحداث وتندمج في أكثر من نقطة، سمّاها جمال، في رحلة انتقاله مع مقرّ الجامعة من القاهرة إلى تونس، “نقطة التلاشي”. وبحركة صعود حقيقية ومباغتة، قال: “ها قد جئنا إليك يا تونس، وعلى أكتافنا حقائب ملأى بالذكريات الحزينة والإخفاقات الصغيرة”. يلي ذلك استرجاع متواصل يطرح نماذج تفاصيل العمل في أمانة جامعة الدول العربية، وهبوط طائرة السادات في المطار الإسرائيلي، وما تبعها من تداعيات.
ونقطة التلاشي هنا على الطبيعة التي تسطّرها الأحداث ليست وهمية، بل موجودة فعلاً، وتلتقي عندها كل الخطوط المائلة في الأفق، وهي النقطة نفسها التي تسمح بوضع الأشياء في مكان واقعيّ، أي بإظهار بُعدها الثالث، سواء كنا ننظر إلى هذه الأشياء من الأمام أو من الجوانب أو من الأعلى. هذا البُعد هو الذي مثّل الخطوط المائلة والهاربة التي التقت فيها نقطة واحدة، بدأت عندما أشعل محمد البوعزيري النار في جسده، ولم تنته عندما نفّذ سيف الدين الرزقي الهجوم الذي قتل 38 شخصاً يوم 26 يونيو/ حزيران الماضي، وشتان بين الفعلين.
تقاربت مصر وتونس فيما آلت إليه الأوضاع بعد ثورات الربيع العربي، ففي ليالي أم الدنيا الحزينة، وأفقها الممتد من شواطئ الإسكندرية، آلام كثيرة ترحل مع أمواج البحر لتعانق المدينة الأخرى على الشاطئ نفسه عند سوسة في تونس.
وما فتحته مصر وتونس من أحداث جسام لم يقم على ركائز حَدَثية، حتى وإن كانت بثِقل زيارة السادات إلى تل أبيب، فقد ترك البلدان الأبواب مشرعة لتناسل العنف متجاوزاً حدود الشواطئ ولامنتهى الصحاري.
أما المكان وتحديده فيما يتعلق بالبلدين، فإنّنا، اعتماداً على ما طرحه غاستون باشلار، عن تأثير المكان في النص، نلمس أنّ هناك مكانا حميما في كل كتابة عن بلد يتداعى له ما بالآخر. يكفي أن تضجّ بهدير الثورة الأول تونس، لتنتفض مصر، ومعها دول الربيع.
أي كتابة عن تونس ووضعها وراهنها السياسي يبرز فيها صدى مصر بشكل غير مسيطر عليه، وكاشف عمّا يمور داخل تلك الأحداث بشخوصها، أبطالاً وضحايا ومجرمين. وما يفيد في نقطة التلاشي المتجددة أنّ ذاكرة الأحداث متوهجة، منذ ذلك الوقت الذي انتقلت فيه الجامعة من القاهرة إلى تونس، وإلى الوقت الذي يتوحد فيه شعبا البلدين بمناهضة العنف بمصادره كافة. الصورة الواضحة الآن أنّ واقع مصر وتونس تنعكس تلاوينهما على مخيلة الانكسار، الانهيارات السياسية والفكرية، والواقع المتخيل الذي تحقق برهة، ثم ما لبث أن انزوى.
ومن الاعتداء الإرهابي على متحف باردو في مارس/ آذار الماضي، وراح ضحيته 22 شخصاً، بينهم 20 سائحاً أجنبياً، إلى هزة الاعتداء في سوسة، تمثلت الآثار الفورية لذلك في قرار الحكومة التونسية إغلاق 80 جامعاً خارجة عن وزارة الشؤون الدينية خلال أسبوع. وبالإضافة إلى تقييد الحرية الدينية، هناك تقييد آخر قد يطول أمده، وهو تضييق الخناق على بعض الأحزاب السياسية، والذي قد يصل إلى حلّها، ما يعود بهذه الجميلة الخضراء إلى مربع الديكتاتورية مرة أخرى. أحد التحديات التي تواجه المجتمع التونسي، المدني بطبعه، تغيير طريقة التفكير التي احتلت عقله في سنوات زين العابدين بن علي. وتونس، مثل دول الربيع العربي التي لم يحتمل ديكتاتوريوها الديمقراطية الوليدة، تستعيد النظر في التصور القائم.
تصحو جامعة الدول العربية تدعو إلى اجتماع طارئ، لبحث الهجمات الأخيرة في مصر، وكأنّ ما يدور في تونس ومصر نفسها قبل هذا اليوم لا يعنيها

حبست هذه الأحداث الكل في مربع ” اللاتوقع”، بقيود التزمّت السياسي والديني الذي يسود في المجتمع العربي، وتوق هذا المجتمع إلى الديمقراطية ونضاله المستمر حتى بعد نيلها. وهكذا تبدو صور الثورة المتحركة ترقص على إيقاع الآلام تارة، وعلى وتر الآمال في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية تارة أخرى. وبمثل حالات التشظي في الدولتين تصحو جامعة الدول العربية تدعو إلى اجتماع طارئ، لبحث الهجمات الأخيرة في مصر، وكأنّ ما يدور في تونس ومصر نفسها قبل هذا اليوم لا يعنيها. وكان حريّاً بالجامعة، المغلوبة على أمرها، أن تكون واقفة على أهبة الاستعداد، ما دام في هذا الوطن العربي المكلوم دماء تسيح في الطرقات، وتبدّلٌ لزرقة الشواطئ بحمرة الدماء. ويستوي هنا الفعل والجريمة، ولا فرق بين أن يرتكبها منفلتٌ بإيعاز من جماعة متوحشة في بلد يتنسم عبير الديمقراطية، مثل تونس، أو في بلد آخر يُقتل بنوه بتوافق غريب ومحيّر بين الحاكم والجماعات الإرهابية مثل مصر.
وفي مصر التي في القلب والخاطر أوجاعٌ أكثر من التي حملها الديبلوماسي العاشق أم الدنيا، جمال محمد إبراهيم، وأشدّ إيلاماً له من تحويل مقرّ الجامعة إلى تونس، وأفظع وقعاً من أن تُرى، وهي تتنكب المآسي تلو المآسي.