مصطفى الآغا

نحن وسويسرا


أكتب هذه المقالة من جنيف وفي ليلة عيد الفطر المبارك، فكل عام وأنتم بصحة وسعادة وأمن وأمان.. وصدقوني، لن يشعر بمعنى الأمن والأمان، إلا من فقدهما، وهناك الملايين الذين هربوا من أتون الحروب والاضطهاد والمشاكل والتمييز، فليس كل الهاربين فقط بسبب الحروب، بل هناك مليار سبب يدعو الناس للهروب، وأولها اقتصادي، وآخرها أمني، لأن معظم المهاجرين من دولهم والذين يخترعون مليون سبب لسلطات الهجرة في الدول التي جاؤوا إليها، أول شيء يفعلونه بعد نيلهم لجنسية وطنهم الجديد، هو عودتهم لوطنهم القديم، وهذا الكلام سمعته شخصيا من وزير خارجية السويد في أوائل تسعينيات القرن الماضي.

وفي جنيف، حيث مقر منظمة الأمم المتحدة، على بُعد 200 متر مني، توجد أيضا العديد من الهيئات الدولية المهمة، مثل منظمة الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة التجارة الدولية، والصليب الأحمر، ومنظمة الملكية الفكرية، ومنظمة العمل الدولية ومنظمة حقوق الإنسان.
وفي جنيف، التي ينطق أهلها بالفرنسية، تقاليد إنسانية رائعة، وشعب جد لطيف، ونزعة منفتحة على العالم، وهي بلد محايد مئة بالمئة.. صحيح أنك تستطيع دخوله بفيزا شينغين، مثل شقيقاتها الأوروبيات، لكن عُملتها ليست اليورو، وأهلها يتقبَّلون التعامل به، لأن قيمته تقريبا هي نفس قيمة اليورو، وأجمل صفات أهل هذا البلد، هي التسامح، وعلى أرضها جرى التوقيع على مئات اتفاقات السلام، لهذا عُرفت بعاصمة الحياد والسلام.

وعندما أتحدَّث عن الحياد، يخطر على بالي منظمة دول عدم الانحياز، التي كان ثلاثة أرباع أعضائها منحازون.. إما للشرق أو الغرب، وأحيانا يكون انحيازهم سافرا، ومع هذا يدعون أنهم غير منحازين، بينما في سويسرا هم بحالهم وصناعتهم هي الساعات والبنوك وسكانهم الأصليون ليسوا كثرة، لكنك عندما تزور البلد ستشاهد عشرات الجنسيات الآسيوية والأفريقية، وحتى الأميركية اللاتينية، وهم مندمجون مع مجتمعهم الجديد.. اللهم إلا بعض العرب الذين حملوا مشاكل دولهم وخلافاتهم واختلافاتهم إلى هذا البلد، وشاهدت عدة نقاشات على طريقة الاتجاه المعاكس، تثبت، قولا وفعلا، أنه من المستحيل أن نتغيَّر وتتغيَّر طباعنا (العربية)، حتى لو عشنا على المريخ.

في سويسرا يعيش أهلها مشاكل روتينية، مثل الأكل والشرب والضرائب والعمل وأسعار البنزين وتوفير بعض النقود للسفر والسكن والمدارس، لكن ليس لديهم ديكتاتوريات، ولا قمع ولا طائفية ولا صراعات مذهبية أو دينية ولا حروب ولا منعطفات تاريخية تمر بها الأمة، ولا مؤامرات إمبريالية أو صهيونية، ولا أراضي محتلة ولا قمع فكريا أو رقابة على المطبوعات، ولا «أمرك سيدي»، ولا كل المشاكل التي وعينا عليها منذ فتحنا عيوننا على الدنيا، وأخاف أن تبقى مشاهد ثابتة في حياتنا وحياة أولادنا وأحفادنا، لأننا أساسا توارثناها أبا عن جد. لا أطالب أن نكون مثل سويسرا، لكن الإنسان يطمح للأفضل، وكما يقولون «ما أضيق العيش فسحة الأمل».

كل عام وأنتم بخير