د. ياسر محجوب الحسين

تفجير المصلين.. تردٍ فكري


قد يعجز كاتب لا يشق له غبار أو خطيب مفوّه عن وصف فظاعة فعل يستهدف تفجير المساجد أثناء أداء الصلوات، بيد أن الأمر يغدو حالة فكرية مستعصية عندما يأتي في سياق ممنهج مرفود بتبريرات دينية ما أنزل الله بها من سلطان.. للمرة الثالثة وفي أقل من شهرين تُستهدف مساجد في المملكة العربية السعودية في كل من أبها والقطيف والدمام.. التفجير الأخير بأبها الخميس الماضي أسفر وحده عن مقتل 15 مصليا بينما كانوا يؤدون صلاة الظهر.
كيف يمكن أن يجرؤ شخص احتضنه بيت مسلم على استهداف بيوت الله، في حين أن نهج الإسلام، وقادته يوصون جيوشهم بعدم التعرض لدور العبادة حتى في بلاد العدو.. إن استهداف بيوت الله بالتفجيرات الدموية لا يمكن وصفه بأقل من أنه ضلال فكري ومرحلة متقدمة من العدوان والبغي والجهالة.. وهو عمل شاذ لا يقوّم خطأ ولا يصلح معوجاً ولا يسعف نطيحة ولا موقوذة.
بدون مواربة تبنى ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية تفجير مسجد أبها بعد ساعات من حدوثه، ونفس التنظيم تبنى من قبل تفجير مسجدي القطيف والدمام. واجتاح التنظيم أو “داعش” شمال العراق وغربه وأجزاء مقدرة من سوريا بشكل مذهل وأعاد رسم خريطة البلدين وسط ارتباك دولي وإقليمي.. غير أن الحرب على هذا التنظيم السرطاني لا تصيب الهدف مباشرة، إذ إنها لا تستخدم الوسائل الناجعة القادرة على اقتلاع المشكلة من جذورها، كما أنها أيضا في ذات الوقت لا تستند إلى صدقية أخلاقية، فهي تجمع تحالفاً من دول متناقضة في منطلقات ومبرراتها.. وفضلا عن صعوبة تحقيق نصر عسكري حاسم على الأقل في الوقت الراهن، فإن التركيبة الفكرية المعقدة والمختلة التي تشكّل مرجعية تنظيم الدولة، تؤكد أن تصويب الهدف عبر الأداة العسكرية وحده لا يحقق القضاء على فكر الدواعش.
ويعاني التحالف الدولي ضد “داعش” من إشكالات أخلاقية تفت من عضده، وهي إشكالات تصب في صالح تنظيم “داعش” نفسه وتمده بما يحتاج من مبررات يسوّق بها حربه التي يصفها بالمقدسة ضد الآخر.. ولعل أبرز هذه الشروخ الأخلاقية، مزايدات بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل الذي خلط من قبل أوراق “داعش” بأوراق “حماس”، فقال إن “داعش” تقطع الرؤوس و”حماس” تُطلق النار علينا. نتنياهو اعترف في الوقت نفسه بدور لإسرائيل في التحالف الدولي ضد “داعش”، وقال إنه يؤيد جهود الرئيس الأمريكي باراك أوباما، مؤكداً استعداد إسرائيل للدعم والمساعدة في كل شيء وبأي طريقة ودخول إسرائيل أمر يستثمر فيه تنظيم “داعش”.
الرئيس السوري بشار الأسد الذي لم يرع في شعبه إلاً ولا ذمة وجد فرصة سانحة ليرمي “داعش” بدائه وينسل ويعرض خدماته على التحالف، باعتباره جزءًا من الحل. ويؤمن بعض الغربيين والأمريكيين بأن هدف مكافحة الإرهاب أكثر معقولية بطبيعته من هدف تحقيق الاستقرار السياسي في دولة من دول المنطقة مثل سوريا.. يقول مالكوم ريفنكد وزير خارجية بريطانيا السابق في حكومة المحافظين ورئيس لجنة الشؤون الأمنية في مجلس العموم البريطاني (البرلمان): يجب سحق “داعش” ويجب ألا نشعر بالحرج حول كيفية عمل ذلك، حتى لو اقتضى الأمر التعاون مع النظام السوري، وقال: “أحيانا تضطر لعقد علاقة مع أشخاص بغيضين من أجل التخلص من أشخاص أبغض”.
الولايات المتحدة نفسها تمسك بتلابيبها قضايا أخلاقية تورطت فيها خلال حربها في أفغانستان ضد طالبان، وفي العراق أيضا ضد نظام الرئيس صدام حسين، فالحرب على الإرهاب ضد طالبان صاحبها سجن جوانتنامو الشهير الذي انتهكت فيه حقوق الإنسان، ورغم أن الرئيس أوباما كان قد وعد في حملته الانتخابية لفترة رئاسته الأولى بإغلاق المعتقل سيئ السمعة إلا أنه لم يفعل حتى الآن وقد شارفت فترة رئاسته الثانية على الانتهاء.. الولايات المتحدة أيضا مازالت تطاردها فضيحة سجن أبو غريب في العراق وما جرت فيه من انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان في العراق، ورأت صحيفة لوس أنجلوس تايمز أن معظم المقاتلين البارزين في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية – ومنهم زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي- كانوا متطرفين يسعون لمهاجمة أمريكا، وأن المدة التي أمضوها في السجون الأمريكية داخل العراق زادت من وتيرة تطرفهم ومنحَتهم الفرصة لحشد ولتجنيد متطرفين آخرين.
العقلاء في الغرب يشيرون إلى فعالية الأداة الفكرية في محاربة “داعش” مقابل خطل الآلة العسكرية المدمرة، فالأخيرة إن حققت نجاحاً وهذا أمر مشكوك فيه بدرجة كبيرة جداً، فسوف يكون مؤقتاً وغير مستدام، أما نهج محاربة تنظيم “داعش” فكرياً، فإن نجاحه سيكون حتماً مستداماً ويأتي على قاعدته الفكرية المختلة من جذورها.. وقبل الغرب فإن علينا حكومات وشعوبا في هذه المنطقة، المتضرر الأول، إعمال العقل والتفكير في أداة تعرية فكرية ماضية لأفكار “داعش” الهدامة. وليس من الصعب، بل من السهل جدا إيجاد الغطاء من صحيح الدين لأي عمل يستهدف كشف عورات “داعش”.
من جهة أخرى ما لم تتعدل النظرة الغربية إلى الإسلام وتتخلص من الأفكار المسبقة والنظريات المختلة، فإن أي تفكير في حوار فكري يقضي على التطرف والانحراف الديني بين المسلمين، سيكون حرثاً في البحر.. فالمشكلة المهمة بالنسبة للغرب وفقاً لأفكار المفكر الأمريكي صامويل هنتنجتون المختلة، ليست الأصولية الإسلامية، بل الإسلام نفسه.. إن أفكارا ومقولات مثل ما قال به هنتنجتون وغيره، بأن حدود الإسلام دموية وكذا أحشاءه، وهي العبارة التي وردت في مقالة لهنتنجتون عام 1993 وقد أثارت ردود فعل كبيرة، هي التي تعيق التواصل الفكري مع الحضارة الإسلامية، فلابد من طرد هذه الأفكار بعيدا واستبعادها في حال المعالجات الفكرية.