عبد الجليل سليمان

لحم الحمير وأولاد القرض


“وأما نحن أهل القيقر فمن بعد ما كُنا في نعيم صرنا في جحيم بخصوص العيش من مدة أربعة أشهر خلص، من شِدة الحصار، الربع من بعد ما كان بعشرة ريالات صار بتلاتين ريال، وتاني يصبح بخمسين ريال، وعلى هذا الحال في الشهر الخامس حصل مايتين ريال، وفي السادس مايتين وخمسين، لغاية ما بلغ تلتماية وخمسة وعشرين ريال بمبلغ 65 جنيه ذهل. والناس تأكل في الهجليج والشجر وقش الرجلة الناشفة والصمغ وأولاد القرض يقلوه في الدوكة. والصمغ البعض منه يعملوه كسره والبعض يقلوه في الدوكة، ولحم الحمير الأقة خمسين ريال، والحصان سبعين ريال الأقة، وجلود العناقريب أكلوها جميعها”.
أعلاه فقرة مقتبسة (بضبانتها) دونما إضافة أو حذف أو تحرير أو تعديل أو تصحيح من كتاب (مذكرات يوسف ميخائيل – التركية والمهدية والحكم الثنائي في السودان) النسخة التي قدم لها وحقق فيها الدكتور أحمد إبراهيم أبو شوك الصادرة عن مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي.
مؤلف الكتاب المشار إليه، هو يوسف ميخائيل مليكة، قدم والده من مصر إلى السودان ضمن (40) موظفاً جيء بهم لترقية الأداء الإداري في السودان، فابتدر الرجل (والد المؤلف) حياته العملية (الوظيفية) برئاسة مديرية كردفان في مدينة الأبيض المشار إليها في الفقرة المقتبسة بـ(القيقر)، تلك الفقرة تصور كيف انحدرت وتدهورت أحوال الناس الحياة في المدينة بعد حصارها ثم دخولها من قبل (المهدية) إلى أن أوصلهم الجوع إلى أكل (أولاد القرض) دعك عن لحوم الحمير والخيول.
بالطبع، ورغم أنني لست بنيةِ مُقاربة الواقع الراهن بذاك الذي سلف، لكنني حين أعدت البصر كرتين ماسحاً به (الفقرة) وجدت أن بعض وقائعها تمسك بأكتاف بعض أحوالنا الراهنة، فاستخدام البعض للحم الحمير خبر ذائعاً وواقع ماثل، أما (أولاد القرض) فحلت محلها (العدسية) وما شاكلها، وارتفاع الأسعار بشكل متواتر وسريع ربما يفوق ما حدث في القيقر بالنسبة لربع العيش في ذلك الزمن المهدوي القديم الذي وصلت فيه الضائقة بالمواطنين حد أكلهم للهجليج والشجر والصمغ وقش الرجلة الناشفة، وهذا ليس بمستبعد أن يحدث الآن وهنا في ظل الارتفاع الجنوني للخضروات وشح المعروض منها ورداءته، وإذا لم يحدث فإن السبب سيكون بلا شك هو أنه ليس هنالك هجليج ولا صمغ ولا رجلة بعد أن قضينا قضاءً مبرماً على الغطائين الشجري والنباتي وأهلكنا الزرع وجففنا الضرع واتجهنا مواطنين وحكومة إلى الأنشطة الطفيلية (دولار، ريال) والمضاربات في السلع و(الكسر والكتفلي) والسمسرة في الأراضي، وابتعدنا عن الإنتاج الحقيقي، وهذا كله حدث بعد أن تم كسر عظم الخدمة المدنية التي جاء والد (يوسف) بمعول (التمكين) لها.
وعليه، فإننا إن لم نُعد الأمور لنصابها عبر تسوية سياسية شاملة، توقف الحرب أولاً، وتصلح وتطور من الخدمة المدنية وتخليها من المتمكنين ثانياً، ثم توالي الإصلاح فتنتقل بنا من اقتصاد المضاربات والسمسرة إلى اقتصاد الإنتاج، فإن أكل لحم الحمير وأولاد القرض سيكون حلماً صعب التحقق.