مقالات متنوعة

منى عبد الفتاح : محرقة نابلس


في هذه الأيام التي يخلّد فيها الفلسطينيون ذكرى شاعر الانتفاضة محمود درويش، قام مهاجمان يهوديان متطرفان بحرق منزل فلسطيني في قرية دوما في الضفة الغربية المحتلة، ما أدى إلى مقتل الرضيع الفلسطيني علي الدوابشة ووالده وإصابة بقية أفراد أسرته بحروق خطيرة.

لطالما ارتبطت الانتفاضة الفلسطينية بأطفال الحجارة، وكانت ثورتهم التي ما زالت تقابل المجنزرات بالحجارة الصغيرة، ولكن أن تتم المواجهة بين رضيع وعدو غاشم لا يملك ذرة من إنسانية، يستوجب ذلك أن نستنفر إنسانيتنا، ونبحث عنها علّنا نجدها هنا أو هناك.

تُعتبر هذه الحادثة المأسوية إحدى عمليات التخريب وجرائم الكراهية التي عمد إلى ممارستها مجموعات من الشبان اليهود المتطرفين الذين يستهدفون العرب والمسيحيين ونشطاء السلام.

فقد كُتبت كلمة “انتقام” بالعبرية على جدران المنزل المنكوب، ولا يدري الضحايا ممّ يكون الانتقام، ومن هو أحق بهذا الانتقام، هل هو مغتصب الأرض، أم الضحايا الذين يعيشون في أرضهم وهم لا يملكونها؟ وهذا الفعل يتجاوز كثيراً حمى الانتقام، ليذهب مباشرة إلى التشفي من طفل بريء يتوقع منه هذا العدو أن يكبر وهو يحمل ذات المشاعر الانتقامية، فاستبق هؤلاء الأحداث ورأوا في هواجسهم أنّ من يقتل طفلاً أو شاباً يتوقع ضره المستقبلي، هو عملٌ يُثابون عليه. وفي هذه النقطة يتساوى المتطرفون في كل الأديان وكل الملل، وهي امتلاك صك الأحقية في الحياة والتصرف في حيوات الآخرين.

وأي ثمن هذا الذي يريده المستوطنون الذين يديرون أعمال العنف من مقرهم القريب لقرية دوما مكان حرق الدوابشة وأسرته، وهم أنفسهم من تم التحقيق مع عدد كبير منهم من قبل بتهمة المشاركة في هجمات تنظيم جباية الثمن اليهودي المتطرف. هذا المقرّ المسمى ببؤرة ايش كوديش الاستيطانية، تقطنه عشرات الأسر المتشددة دينياً، والتي تعتنق فكرة إسرائيل الكاملة وضرورة تهجير الفلسطينيين أصحاب الأرض الحقيقيين.

قدّم وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي الأسبوع الماضي ملف مقتل الرضيع الفلسطيني إلى المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا، في مقر المحكمة في لاهاي. والملف المسافر من رام الله إلى لاهاي، ملفٌ مثقلٌ بالضيم الإنساني. احتوى على حادثة مقتل الرضيع الفلسطيني على أيدي مستوطنين يهود، وكذلك إرهاب المستوطنين بشكل عام.

ولم يكن هذا هو الملف الأول المقدّم للمحكمة الجنائية الدولية في تجاوزات إسرائيل والمتطرفين اليهود، فقد قدّمت السلطات الفلسطينية في يونيو/حزيران الماضي طلباً إلى المحكمة لملاحقة اسرائيل بتهمة ارتكاب جرائم حرب خلال حرب غزة عام 2014م، ولملاحقتها أيضاً بسبب مواصلة سياسة الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة.

ستخرج إسرائيل من محكمة الجنايات الدولية كالشعرة من العجين، أولاً لأنّها ستعلن أنّها المتضرر رقم واحد من هذا التطرف الذي طال حتى أجهزة الشرطة الإسرائيلية. ثانياً وهذا يتعلق بالمحكمة نفسها التي ما استطاعت أن تحيل إسرائيل في قضايا إنسانية أخرى ضد الفلسطينيين، لا حصار غزة وحرق الأطفال الأبرياء ولا غيرها مما ترتكبه إسرائيل أمام نظر العالم وسمعهم.

رحل درويش بعد أن ترك “سجّل أنا عربي” لتكون علامة ثابتة لكل ما يحيق بالفلسطينيين من ظلمٍ وقهر تقترفه أيدي الاحتلال. هذا النظام بمتطرفيه يحارب الأطفال الرضّع الذين يُتوقع أن يقفون ذات يوم أمام الصمت العربي المخزي بحجارتهم، وما زالت الأمة العربية في ذات توهانها المفضي إلى ضياع الذات وغياب العقل، فباتت ذكراه حية والضمير العربي في حالة موات.

فما يواجهه الفلسطينيون هو نفس ما تركه درويش حيث لم يستطع الإفلات من سمة المقاومة التي وصمت شعره، حينما استحالت من قضية حمل لواءها إلى حالة أخرى بحث فيها عن المقاومة ولم يجدها، حتى باتت لا تُذكر القضية إلا ويُذكر محمود درويش.

نعى محمود درويش الرضيع الشهيد علي الدوابشة في قصيدته “وعاد في كفن”، وفي كل ذكرى للشاعر تتجدد المآسي:

“كان اسمه، لا تذكروا اسمه
خلّوه في قلوبنا
لا تدعوا الكلمة
تضيع في الهواء كالرماد
خلوه جرحاً راعفاً، لا يعرف الضماد
طريقه إليه”.