عبد الجليل سليمان

بين الخدعة والكذب


لم أعد ريِّثاً ريثما أكمل قراءة الفقرة التالية لما كتبه (إسحق أحمد فضل الله) أمس، تحت عنوان (سعادة اللواء قوش هل تريد منا أن نكتب؟)، فحينما بلغت هذه “وقوش يقول لـ (السوداني) إن إسحق فضل الله يؤلف من عنده.. يعني كذّاب!! وحين يسأله المحرر: لكن أحاديث إسحق تصدقها الأيام، يقول قوش.. لا، واللواء قوش إذن يعلن أن الأحداث صادقها وكاذبها هي كاذبة ما لم يعلن السيد قوش إنها صادقة”.
لم أعد ريِّثاً حينها، فتقهقرت إلى حوار ليس ببعيد أجرته (لينا يعقوب) مع إسحق فضل الله لصالح ذات الصحيفة التي حاور على صفحاتها (صديق دلاّي) اللواء قوش، واقتطفت منها هذا:
* لكنك تخدع القارئ بقصة من نسج خيالك؟
– لا أبدا، ليست من نسج الخيال.
* أنت نسجت قصة حول مقتل عبد العزيز الحلو، كيف قتل ودفن، أليست هذه قصة من الخيال؟
– كم صحيفة صورت هذه القصة وخرجت بهذا الخبر مينشيتاً رئيسياً؟! هذا جزء من عمل قامت به الدولة وليس أنا، لو كتب إسحاق لوحده، كان معليش، لكن الصحف فعلت نفس الشيء، فهل تريدينني أن أقول للناس إن هذا كذب؟ لا لن أقول لأنها معركة.
* ولكن يا أستاذ إسحاق، هو كذب، أن تكذب على الناس بمقتل شخص لا يزال حيا يرزق، كيف يستقيم ذلك؟
– هذه معركة، والحرب (خدعة) خاء دال عين تاء مربوطة.. الخدعة تؤدي ما تؤديه الرصاصة.
اقتطفت هذا، وقاربته بذاك، فوجدت أن ما قاله قوش عن إسحق، هو نفس ما قاله إسحق نفسه بيد أنهما استخدما (جُملاً) مختلفة للتعبير عنه، فـ (قوش) قال إن إسحق يؤلف، وإسحق قال إنني (أخدع) لأن الحرب (خدعة)، فرأيت أن ما وصف به اللواء الكاتب أفضل مما وصف به الكاتب نفسه، فلا شك أن التأليف أخف وطأة من الخداع.
لكن، هذا ليس هو المهم، فالمهم أن من يفهم مهنة الصحافة على أنها مهنة التضليل والخداع والكذب، فإنه يجب أن يغادرها إلى عمل آخر، فهي ليس كذلك بالتأكيد، وإن كانت (ناقلة) لما يمكن أن يكون أكاذيب وضلالات.
بطبيعة الحال، لن تكون صحفياً مميزاً ولا كاتب رأي حصيفاً وثاقباً إذا ما مضيت إلى موارد الأكاذيب تنهل منها وتغرف، ثم تنام وضميرك (مستريح)، إلا أن الأهم من ذلك كله هو أنك إذا ما روجت لخبر أو معلومة وأنت تعلم أنهما غير صحيحين، فإن هذا الفعل لا يوصف (لغوياً) بأنه خدعة، فمعنى الخدعة لا يتغير (حرباً وسلماً)، إذ أنها (الْمَكْر والْحِيلَة)، أما الكذب فلا تعريف له غير أنه الإخبار عن الشّيء بخلاف ما هو عليه في الواقع.
لذلك، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل إن الحرب (كذبة) بل (خدعة) وشتّان بينهما، وقال ابن العربي في ذلك: الخداع في الحرب يقع بالتعريض وبالكمين ونحو ذلك، وقال ابن المنير في معنى الحرب خدعة: أي الحرب الجيدة لصاحبها، الكاملة في مقصودها إنما هي المخادعة لا المواجهة، وذلك لخطر المواجهة وحصول الظفر مع المخادعة بغير خطر.