منوعات

حكواتي: أكره “سجن” مريول المدرسة


حين كنتُ تلميذة، انتقلت من مدرسة ابتدائية إلى مدرسة إعدادية. وكانت المدرستان تابعتين للأونروا.

على مدى تسع سنوات دراسية متتالية في حياتي اعتبرت هذه السنوات هي الأكثر تعاسة، بسبب ما مررتُ به ومرّ بي من معاناة نفسية. إذ كنتُ باختصار، ومنذ العام الأوّل من سنواتي المدرسية، أكره مريول المدرسة المخطّط بالأبيض والأزرق، وهما اللونان المعتمدان كشعار للأونروا، المؤسسة الإغاثية التي تذكّرني دائماً بأنّني لاجئة.

في الصف الابتدائي الأوّل، وحين كنت أستعد لدخول المدرسة للمرّة الأولى في حياتي – أي أنّني كنتُ في السادسة من عمري – دخلت أمي إلى المستشفى قبل موعد بداية العام بشهر تقريباً. ووصلت إلى وضع صحيّ سيّئ. وهكذا لم أجد حولي من يهتمّ بخياطة المريول للطفلة الصغيرة. إذ كان الجميع من حولي مشغولاً بوضع أمي الصحي وإمكانية تحويلها للعلاج خارج غزّة.

جدي- والد أمي- هو الوحيد الذي عرف سبب دموعي المحتبسة في صمت. وكنت قد حبستها طويلاً افتقاداً لأمي وقيام أبي بدور الأم والأب. وكانت جدّتي لأبي، وهي امرأة طاعنة في السنّ، لا تقوى على الحركة، ولا على القيام من مجلسها، فكانت تنام حيث تجلس، ولا تكفّ عن عقابنا بأن تربط ساق أحدنا بساق السرير الحديدي لتمنعنا من الحركة بعيداً عنها.

وهكذا كنّا نصبح جميعاً مثل الجراء الصغيرة تحت سيطرة نظراتها وأوامرها. وحملني جدّي لأمي إلى بيته رحمة وشفقة علي من معاملتها هذه.

جدّي كان رجلا فقيرا ويعيش على مال قليل يرسله له أولاده الذين فرقتهم حرب عام 1967 ما بين الأردن ومصر. لكنّه لم يظهر يوما أنّه يعاني الفاقة، بل على العكس، فقد كان يضع ساقاً فوق ساق ويدخّن غليونه وينفث الدخان في عزّة وكبرياء وهو يتباهى بجيبه المليء بالمال.

في الحقيقة لم يكن كذلك أبداً. وهكذا ذهب بي جدّي إلى السوق، وبعد مساومات طويلة مع بائع القماش العجوز، اشترى جدّي قطعة قماش تكفي لخياطة مريولي الأوّل، وأصبح همّه البحث عن خياطة تقوم بخياطته خلال أقلّ من 24 ساعة. لأن اليوم المدرسي الأوّل يصادف صبيحة اليوم التالي.

طرق جدي باب جارته الخياطة. وبعدما أبدت تأفّفها، وهي تعلم أنّ جدي لن يمنحها أجرة مجزية، طلبت منه أن يتركني مع قطعة القماش حتّى آخر النهار في بيتها، بين أكوام القماش والقصاصات والخيوط، وأمام ماكينة الخياطة العتيقة التي كانت تديرها بقدمها.

تركني جدي وأحكمت يدي على قطعة القماش الملفوفة بجريدة قديمة وانتظرت أن تمدّ يدها إليها لكي تقصّها على مقاسي وتخيطها. لكنّ ذلك لم يحدث إلا آخر النهار بعد أن طلبت منّي أن أهزّ صغيرها في سريره المعدني لساعات طويلة، حتّى تورّمت أصابعي النحيلة؛ إذ كنت أقبض على طرف السرير بأصابعي، فتركت أثراً ورائحة صدأ عليها.

ثم طلبت منّي أن أنظّف حوش دارها وأجمع أوراق الشجر الجافة. وهكذا تضوّرت جوعاً ولم أجد سوى زير الماء لأشرب منه كلّما تعاركت أمعائي احتجاجاً… إلى أنّ حلّ المغرب ومدّت يدها بتأفّف أكثر لأنّها كانت متعبة من خياطة ما يزيد عن عشرين مريولاً جاءت الأمهات سعيدات لاستلامها. أخذت مني قطعة القماش وبدأت في قصّها ثم خاطتها سريعاً.

حين عدت إلى جدًي فتح الكيس الورقي ورأى المريول فلم يبدِ تعليقاً غير الابتهاج لأنّني أصبح لدي مريول. أما أنا، وفي الصباح الباكر حين ارتديته وأصبحت بين زميلاتي الصغيرات، وراحت المعلمات توزّعننا إلى الفصول المسقوفة بالقرميد وعلم الأونروا يرفرف فوق مكتب الناظرة، فقد شعرت بفداحة ما فعلته بي الخياطة الشريرة.

إذ كان مريولي أبشع مريول بين مراييل التلميذات، بأكمامه القصيرة وذيله الطويل من ناحية والقصير من الناحية الأخرى، ولم تزيّنه بأشرطة ولا بأزرار، وبدا، كما علّقت المعلّمة وهي لا تدري ما عانيته حتّى حصلت عليه، ولا تعلم أيضاً أنّ أمي تصارع الموت: “تبدين كأنّك في طريقك إلى السجن بهذا الزيّ”.

وفعلا كانوا يقودونني إلى سجن مدرسة الأونروا التي كرهتها ودخلتها ظلما لتسع سنوات متتالية… أكره المريول.

العربي الجديد