الصادق الرزيقي

ذكرى معركة كرري


> يصادف اليوم الثاني من سبتمبر، ذكرى معركة كرري التي وقعت في مثل هذا اليوم من العام 1898م، وبدخول الجيش الغازي مدينة أم درمان عاصمة السودان آنئذ، طويت صفحة مشرقة من تاريخ البلاد، وبدأت حقبة استعمارية بغيضة، مشت من يومها الأول على أجساد الشهداء وخاضت دماء السودانيين الأبطال، ولا يمكن أن تنسى الأمم والشعوب الحية تاريخها ومواقفها البطولية مهما تطاول الزمان أو بعدت في مداراتها هذه الحادثات الجسام وغطاها غبار التاريخ.
> ومعركة كرري، تظل باقية في الوجدان السوداني لأنها رسمت معالم جديدة لبلادنا بعد نهاية الدولة المهدية وتغيَّر السودان من تلك اللحظة سياسياً بوقوعه بين براثن الاستعمار الإنجليزي المصري وترافق معه تحول كبير في تاريخه وتركيبته الاجتماعية، وضربت قيمه الحضارية في مقتل ونهبت ثرواته وموارده، كما يفعل الغزاة البُغاة في كل مكان ومِصر يدخلونه.
> ولو قيل للزمان والتاريخ أن يتوقفا برهة..لفعلا في يوم كرري، حيث تجلت الشجاعة والبطولة السودانية في أبهى صورها، كما ظهرت بشاعة الحرب وفظاعتها وتوحش الغزاة في أشنع ما يمكن أن يتصوره عقل وتأنف منه كل نفس بشرية كريمة وأبية وسامية، فقد استشهد في هذا اليوم الأليم الحزين أكثر من ستة عشر ألف شهيد من السودانيين، وعدد الكلمى والجرحى فاق العشرة آلاف جريح سالت دماءهم حتى تغير لون النهر فصار سيلاً من الماء القاني، وتم أسر ثمانية آلاف أسير، واجتاح جيش الغزاة مدينة أم درمان وعاث فيها فساداً ودمرها تدميراً وخربها حتى صارت مدينة أشباح الماكث فيها مفقود والخارج منها مولود.
> ولسنا هنا في حاجة للتذكير ببشاعة المعركة الحامية الوطيس التي استخدم فيها جيش كتشر الذخائر المحرمة دولياً (ذخائر دمدم). فقبل سنوات من استخدامها ضد أجساد السودانيين، قرر مؤتمر في العاصمة النمساوية عُقد عام 1881م تحريم استخدام هذه الذخائر القاتلة ببشاعة، والتي يفتك بارودها بالأنسجة والعظام واللحم في جسد الإنسان وتنتشر سمومها القاتلة بسرعة فلا تبقي ولا تذر..
> ولسنا في حاجة للتذكير بما فعله أجدادنا في ذلك اليوم من فجره حتى نهايته الدامية، فقد واجهوا عدوهم بإقدام نادر واستبسال لا مثيل له في التاريخ، بشهادة الإنجليز أنفسهم من قادة جيشهم الغازي ومؤرخي وراصدي ذلك الحدث المدوي، ومن بينهم (ونستون تشرشل( رئيس وزراء بريطانيا فيما بعد، والذي كتب كتابه الشهير (حرب النهر) وكان مراسلاً حربياً للصحافة البريطانية. جاء مرافقاً لجيش الامبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس، ويتردد صدى كتبته في عرصات وفجوات التاريخ (لم نهزمهم.. لقد كانوا أشجع أهل الأرض، لكننا سحقناهم سحقاً بقوة السلاح)، وسال مداد كثير، كما سالت الدماء في تسجيل وقائع يوم كرري.. لقد أنصف التاريخ الذي كتبناه وكتبه غيرنا، أجدادنا الذين وهبوا هذا التراب دماءهم الغالية وأرواحهم، وحاول «الغنجليو» بعد دخولهم وطننا أن يغيروا كل ما فيه من ثقافة وقيم وأخلاق ففرضوا نظامهم وثقافتهم وسطوتهم، لكنهم لم ولن يستطيعوا تغيير المضغة التي بين جنبي كل سوداني، فظلت القلوب سليمة لا تحمل إلا الكراهية للمستعمر، والإرادة الصلبة على إجباره ليرحل عن بلدنا وترابنا الذي دنسه.
> فمعركة كرري ليس يوم من أيام التاريخ نمر عليه مرور الكرام، بل هو تاريخنا وعبرتنا وعظتنا الباقية التي نستفيد منها عبر مسار الزمن. فالسودانيون إذا توحدت إرادتهم لا تستطيع أية قوة هزيمتهم، لكن إن تفرقت كلمتهم وضعف تماسكهم وتركوا فرصة للأجنبي يوقع بينهم الفتنة، وساسوا أمورهم بنوع من الطيش والعزة بالإثم، فإنهم يكررون موقعة كرري ويعيدون تاريخها يمشي على قدميه..
> إذا كان هذا الوطن قد روى ترابه بالدماء وجرت المدامع عليه، وغطَّه حزن كبير، مثل الحزن الذي خلَّفته معركة كرري، لهو وطن يستحق أن نصونه ونعمل من أجل سلامته واستقراره وأمنه، والحفاظ على ترابه المقدس، فهل في مثل هذا اليوم هناك من يعتبر.. وينظر إلى خيط التاريخ ليربط الماضي بالحاضر؟.. وتتوالى الأحداث والأعاصير عبر الأيام، ولكن يظل العدو هو العدو، والدم هو ذاته الدم ..!


‫2 تعليقات

  1. الاخ الرزيقي—–
    جزاك الله عنا كل خير علي هذا المقال الرائع الذي سطره يراعك الراقي—
    وأتمني أن يصل هذا الكلام لكل سوداني اصيل يحب بلاده الغالية—