منوعات

الغارمات بدار التائبات.. روايات مؤلمة قصت بأصوات متحشرجة


زيارة واحدة لسجن التائبات بأم درمان كفيلة بأن تدفع بكمية من المتناقضات لإحساسك، لكنها تخلص إلى الألم والوجع الذي يعتري مفاصل الإنسانية، يكفي أنك تشاهد أنثى حبيسة الجدران غض النظر عن الفعل أو الجرم الذي ارتكبته. و(المجهر) يومها قصدت تلك الدار بمعية منظمة الأم “ناهد” في زيارة معقود في نواصيها الخير، متأملين أن تؤتي أكلها سيما بعد القصص الموجعة التي استمعنا إليها من الغارمات أو النزيلات تحت بند المادة (179) (يبقى لحين السداد)
التقينا بنزيلات وإن كان بعضهن سيدات وأمهات، إلا أنهن في عمر الزهور والتي بدأت شاحبة من فرط الذبول. سيدات بطريقة أو بأخرى خضن في معترك الشيكات والأراضي دون أدنى خبرة أو استعانة، بعضهن انجرفن مع التيار وهن يحاولن حلحلة ما عليهن، ولكن على طريقة (طاقية دا في رأس دا) حتى جرفهن الموج وبلغن المليارات الأمر الذي دفع بهن للسجون. فيما وقعت بعضهن ضحية احتيال من محترفين ساقوهن في طرق وعرة ثم اختفوا عند أول منعطف دون أن يتركوا أثراً.
ويلات الحبس
قصص وروايات متباينة خرجت من بين الغصة فكانت مشوبة بالدموع والتنهيد، فلا نحن ولا الباحثة الاجتماعية التي كانت تجاهد في تولي القصة عن إحداهن أحياناً استطعنا الصمود.. أمهات حبيسات تخلى عن بعضهن الأزواج، أطفال في الخارج يعانون ويلات افتقاد الأبوين وثمة مخاطر مجتمعية تلوح في أفقهم، موظفات.. معلمات وطبيبات فقدن المهنة والمأوى وصحبة الأهل والولد.. القصص التالية كفيلة باستدرار العطف مع العشم في استحلاب بضع قطرات من أضرع الميسورين.. فماذا قالت هؤلاء.. وكيف تتعامل المشرفات الاجتماعيات والنفسيات لدرء آثار المشكلة ومعالجة تداعياتها داخل وخارج الدار.
تضحية وتفاني
سيدة أربعينية تكسو ملامحها الطيبة ورغم تحملها لمسؤوليات جسام وهي تنذر عمرها وزهرة شبابها في تربية أشقائها، إلا أن خطوط الزمن ربما رأفة بها تجاوزتها ولم تعّلم على وجهها المرهق رغم الملمات وثقل الحمل كيف لا وهي التي زهدت في الزواج من أجلهم. في انكسار وثمة رخو في حديثها قالت محدثتنا التي قضت بالحبس حتى الآن عشرة أشهر بموجب حكمين تنفيذ قيمتهما عشرين مليون، وتسليم (بلاغات أخرى) بقيمة (13). قالت: كنت أعمل في التجارة البسيطة وتسويقها في السوق وغيره، وفي مرة سافرت إلى جمهورية “مصر العربية” أحضرت (جبنة رومية) وصادف ذلك فصل الصيف وبتخزينها في الميناء لفترة تلفت تماماً وكنت قد أدخلت فيها ما عندي من رأس مال والمبلغ كان كبيراً، ومن تلك الحادثة بدأت تجارتي في التدهور. ومن جملة المبلغ الكلي الذي حبست على إثره وهو (80) مليون حل الداعمين بواسطة مديرة الدار “سلوى” قرابة الـ (36) مليوناً.
فقط (33) مليون
ثم استطردت محدثتنا: أن رأس مال الجبنة كان شراكة بينها وأخرى، وعندما انفضت الشراكة تبقى للبنك الذي اقترضنا منه (13) مليون، وعندما حبست كانت هناك سيدة لديها بطرفي مبلغ (45) مليون حلت الـ(25) وتبقت عشرون مع مبلغ البنك، الجملة (33) مليون هي كل ما تبقى لها.
وبسؤالنا لها عن ما إذا كانت متزوجة؟ قالت إن والدها متوفِ ومن وقتها نذرت حياتها لأشقائها متفرغة لتربيتهم حتى تزوجوا لذلك لم تلتفت لموضوع الزواج. ثم أردفنا السؤال بآخر هل قدر أخوانها تضحيتها وساعدوها في أزمتها؟ ردت بحنو: أخواني ظروفهم على قدر حالهم.
عزيزي القارئ فقط (33) مليون لحرية هذه السيدة الكريمة.
قصة للاعتبار
القصة التالية سعت (المجهر) حال سماعها وهي ما تزال في رفقة نزيلات (يبقى لحين السداد) لحلها بواسطة أحد الخيرين الذين طالما سارعوا لنجدة المحتاجين والضعفاء عند نشر الجريدة لقضاياهم وهم (شركة عطبرة للأسمنت) بالخرطوم واستجاب بسرعة للنداء، لكن يد أخرى سبقته ومدت يدها منتشلة لهذه الأم الصغيرة، ورغم حل مشكلتها وإطلاق سراحها إلا أننا نستشهد بها لجملة أسباب منها فضح استهتار بعض الأزواج، وجشع بعض الملاك وانتزاع الرحمة من قلوبهم وعدم تقديرهم لظروف الضعفاء. ثم عكس صورة مغايرة لبعض الخيرين الذين يمتلكون صفات الإنسان بكل ما تحمل. وهذه القصة بالذات وقفنا عندها كثيراً لعدم تحملنا وصاحبة القصة لسرد تفاصيلها فتولتها برمتها الباحثة الاجتماعية.
جلست قبالتنا وملامح وجهها تشي بالطفولة والبراءة التي لم تسلبها الإحن والمرارات التي تذوقتها وهي تكافح من أجل أبنائها وفي حجرها صغيرها ذي الثمانية أشهر. ويبدو أنها أيضاً ضحية زيجة مبكرة سيما أن أهل تلك الولاية يتسمون بهكذا أفعال دون مراعاة للعواقب. تزوجت هذه السيدة من أحدهم وأنجبت منه أربعة أطفال لكنه لم يهتم لذلك فطلقها وضرب عنهم صفحاً، فاضطرت لقبول زوج آخر طمعاً في أن يساعدها في تربية أولاد طليقها، لكنها تجرعت ذات المصير بعد أن أنجبت منه طفلاً خامساً، وكرر ذات السيناريو بتركها مفضلاً الهرب. فاستسلمت لمواجهة مصيرها بحمل صغيرها في حجرها ومقابلة لهب الكانون ببيعها الشاي في ذاك السوق الأمدرماني تساعدها ابنتها ذات الإثني عشر عاماً، لكن ولأن المنافسة شديدة فإن ريعه لم يسد نفقة عيالها وإيجار المنزل (300) جنيه شهرياً، فتراكم عليها إيجار شهرين فقط وعجزت عن سداده، ودون شفقة فتح فيها المالك بلاغاً بموجبه تم إلقاء القبض عليها من السوق ورفعت في “دفار” وابنتها تشهق وتركض خلفها، وهي لا تسلم من الوقوع ثم الوقوف والجري مجدداً في محاولة بائسة للحاق بوالدتها في مشهد أبكى الجميع، وقد تكفلت جاراتها في السوق بإيوائها.
طفولة معذبة
سألناها عن بقية أطفالها فقالت إن أثنين منهم مع حبوبتهم في البلد والباقين معاي، وعن ماذا ستفعل عقب خروجها من الحبس قالت إنها ستسافر لأهلها في البلد.
أمسكت الباحثة الاجتماعية بمقود الحديث بأن يفترض أن تتوفر ميزانية بالدار لحل مثل هذه الغرامات البسيطة، لأن وجود مثل هؤلاء بأطفالهم داخل السجن تترتب عليه أمور كثيرة، حتى وإن حاولنا أن نجمع لهم اشتراكاً بيننا نحن أنفسنا نعاني ضيقاً والظروف صعبة. ويفترض أن يكون هناك مندوب من الزكاة نتصل عليه في هكذا مواقف.
صورة مقلوبة
وبخلاف القصص الفائتة والتي أفضى بعضها للطلاق بسبب تورط الزوجة في غرامة أودت بها للسجون يضيق الزوج ذرعاً بوضعها ويتخلى عنها بسهولة، لكن الخبر الذي أوردته إحدى الصحف الأسبوع المنصرم كان مغايراً لوقائع الأحداث السابقة نسبة لتبادل الأدوار، فقد ورد في متن الخبر أن معتمد محلية كرري السابق قدم (75) مستنداً أمام محكمة جنايات أم درمان متهماً زوجته بتحرير شيكات مرتدة مستشهداً بـ”19″ شاهداً مثلوا أمام المحكمة. وتعود تفاصيل القضية أن زوجة المعتمد استدانت منه مبالغ مالية ضخمة لأعمال خاصة بها بموجب شيكات، بيد أنه وعند الشروع في صرفها ارتدت، ما أدى لنشوب خلافات بينهما أفضت لتدوينه بلاغاً ضدها تحت المادة (179) من القانون الجنائي.
البحث عن الحلول