عبد الجليل سليمان

على ضوء غوستاف لوبون


بتواطؤ من كل الاختصاصيين والخبراء، يشغل كتاب (سايكولوجيا الجماهير)، مكانة رفيعة في عالم الفكر والمعرفة، وقد اعتمد عليه الباحثون الناشطون في دراسة ظاهرة الجماهير، وحريٌّ بالذكر هنا أن مؤلف هذا الكتاب المهم الفرنسي (غوستاف لوبون)، اشتغل عليه تحت ضغط حالة إحباط عامة انتظمت فرنسا أعقاب هزيمتها في حربها ضد ألمانيا (1870م)، وعلى تلك الخلفية ابتدر (لوبون) رصده لهذه الظاهرة بتشخيص أوضاع الديمقراطية البرلمانية التي أُنتجت في سياق الثورة الفرنسية وحلَّت مكان النظام الملكي الإطلاقي القديم. لكن لم يقل أبدٌ إن الحل يكمن في العودة (القهقهرى) إلى النظام الملكي أو تبني الاشتراكية الصاعدة بطبيعة الحال، وإنما في إصلاج النظام البرلماني وتطويرة والتقدم به إلى الإمام، وأن العلل التي اعترته ناجمة عن انعدام التصميم وغياب الإرادة.
صحيح، أن غوستاف لوبون كان يشعر بشيء من الاحتقار إزاء الجماهير الشعبية، لكن هذا الشعور (الفج) لم يثنه – كباحث وضعي – عن دراسة الوقائع المادية القائمة والاعتراف بها والتعامل معها دونما إنكار لوجودها وسيرورتها.
يقول (لوبون) إن الجماهير كثيراً – في الغالب – ما تخضع لتحريضات وإيعازات أحد المحركين أو القادة الذين يعرفون كيف يفرضون إراداتهم عليهم، وتتبدى استجابة الجمهور لإرادات هؤلاء بشكل واضح وبارز في حالات الذعر والارتعاد التي تصاحب أي (حدث جلل)، مثل الحرب وتداعياتها أو المجاعات أو غضب الطبيعية وفورانها وثورتها، وفي هذه الظروف يكون لدى أي شخص منخرط في الجمهور استعداد غير طبيعي لتنفيذ أعمال استثنائية، ما كان لينفذها فيما لو كان في حالته الفردية الخالصة (العقلانية المحضة).
لكن، وعلى نقيض (لوبون)، يرى المفكر الاشتراكي الفذ (جورج سوريل) في كتابة (تأملات حول العنف)، غياباً مريعاً للأطر السوسيولوجية في تحليلات لوبون لسايكولجيا الجماهير، لكن مع مرور السنوات إذا به يقترب أكثر من مناوئيه، ليقر بضرورة وجود أسطورة جبارة تؤثر في الجمهور وتحركه، وبالتالي لا عقلانية في الأمر برمته.
بطبيعة الحال، يمكننا مقاربة نظرية (سايكلوجيا الجماهير) بحالة انخراط الشباب والشابات اليافعين في صفوف تنظيم دموي عبثي كداعش، وهذا أمر يحتاج لتفصيل أكثر، فيما بعد.
لكن الآن وهنا، وبالإحالة إلى نظرية غوستاف لوبان سالفة الذكر، فإن كل الأحزاب السياسية السودانية من يمينية ويسارية وتحالفات جهوية وقبلية وأخرى مبهمة، بجانب الحركات الثورية المتمردة على السلطة المركزية، والسلطو نفسها، تطبِّق – إلى حد كبير – هذه النظرية في خطاباتها للجمهور، فهؤلاء السياسيون الذين يظهرون في أجهزة الإعلام كافة، يبدون وكأنهم يضعون أقنعة على وجوههم ليقولوا ما يدغدغ مشاعر الجماهير، ويتجنبوا قول الحقائق كما هي.
ويمضي بي الأمر أكثر من ذلك، إلى استعادة مقولة عالم الاقتصاد الألماني الكبير (شومبيتر) التي فحواها: إن أهمية اللا عقلانية في السياسة والتركيز عليها يعزى دائماً لغوستاف لوبان، الذي يمكن تلخيصه في “الجماهير ظاهرة اجتماعية/ التحريض هو الذي يفسر ذوبان الفرد في الجمهور/ القائد المُحرّك يمارس تنويماً مغناطيسياً على الجمهور”.