تحقيقات وتقارير

أحزاب الرجل الواحد.. الظل والأشباح


“الريس خارج السودان والحركة واقفة”، بهذه الكلمات ابتدر قيادي بارز بأحد الأحزاب الحديثة نسبياً حديثه مع أحد زملائه، وكان نقاشهما الذي جرى في مارس الماضي منصباً حول توفير أموال الحملة الانتخابية، وقال لرفيقه إن سفر رئيس الحزب شلّ حركتهم تماماً لجهة أنه الممول الأوحد لكيانهم السياسي، وذات “الحركة التي توقفت” بسبب سفر الرئيس فقد شهدها حزب آخر ظل مجمداً لأربعة أشهر بسبب مرض رئيسه والذي هو في الأساس مؤسسه والداعم الأول له، وفي حزب ثالث فإن عضواً يتمتع بقدر من روح الدعابة كان شفافاً حينما سألته عن كيفية إصدار القرارات بالحزب الذي ينتمي إليه، فقال ساخراً “ما تشوفنا قائمين وقاعدين،القرار في يد رئيس الحزب بس”، الأمثلة الثلاثة ما هي إلا نماذج محدودة تعبر عن واقع موجود في معظم الأحزاب السياسية بالبلاد التي ينطبق عليها مصطلح”منظمة في شنطة” الذي يطلق على نطاق واسع بغرب البلاد تندراً من منظمات لا وجود لها على الأرض إلا أنها في مدونة في سجلات الدولة ويسيطر عليها غالباً شخص واحد وبحوزته مستنداتها.
طول بقاء
ويصلح الكاريكاتير الذي رسمه الفنان عثمان علي عبيد الكركتيرست السابق بالصيحة والحالي بصحيفة الجريدة ليكون نموذجاً مثالياً يجسد واقعاً موجوداً بالأحزاب السودانية، ولا يحتاج لتبيان، ويتمثل في طول بقاء رؤساء القوى السياسية على سدة حكم الأحزاب حتى ارتبطت بهم، فقد رسم بريشته طفلاً يشاهد عبر التلفاز زعيماً سياسياً يتحدث، وفي ذات الكاركتير أيضاً يشاهد الطفل بعد أن أصبح شاباً ثم كهلاً ذات الرجل وهو يتحدث بوصفه رئيساً للحزب، وإسقاط ما رسمه عبيد على المشهد السياسي بالبلاد يجد عدداً مقدراً من رؤساء الأحزاب ظلوا يجلسون على منصب الرجل الأول فيها لعقود حتى بات يعرف الحزب بـ”حزب فلان”، فمنصب رئيس الحزب الاتحادي الأصل ومحمد عثمان الميرغني ظلا على علاقة وطيدة تقترب نحو الاحتفال بيوبيلها الذهبي، ولا يختلف الأمر كثيراً في حزب الأمة القومي الذي ما إن يذكر حتى يأتي زعيمه الصادق المهدي مرادفاً له، فالرجل ومنذ خلافه الشهير مع عمه حول زعامة الحزب في ستينيات القرن الماضي ظل الرئيس الأوحد ولا يفكر أحد مجرد تفكير في منازعته منصب الرجل الأول.
أما الحركة الإسلامية التي خرج من رحمها المؤتمر الوطني، فقد ظل الدكتور حسن عبد الله الترابي يمثل مرجعيتها الأولى وصاحب القرار الأوحد فيها، بل ملهمها الى أن أطاحت به مفاصلة رمضان خواتيم عقد التسعينيات، ووضعت كل السلطات في يد المشير عمر البشير الذي انفرد بقيادة الحركة الإسلامية ورئاسة المؤتمر الوطني لخمسة عشر عاماً متصلة.
أما الحزب الشيوعي فلم يختلف كثيراً عن الأحزاب الثلاثة السابق ذكرها، فالفقيد محمد إبراهيم نقد الذي تسلم الراية من عبد الخالق محجوب ظل الرجل الأول في الحزب لأربعين عاماً متصلة، رغم أن حزبه اليساري من دعاة الديمقراطية الى أن ورثه الخطيب قبل نحو ثلاث سنوات.
ويبدو الواقع متشابهاً في الأحزاب الأربعة الكبرى التي تعتبر الركيزة الأساسية للعمل السياسي بالبلاد.
النماذج تتكرر
ولأن الأحزاب الأربعة السالف ذكرها تعتبر هي التي وضعت اللبنة الأولى للعمل السياسي في البلاد عقب الاستقلال فإن أمراضها انتقلت الى الأحزاب الأخرى التي تناسل جزء كبير منها يسارية كانت أو ذات آيدلوجية إسلامية أو طائفية، فوجود رئيس واحد على سدة رئاسة الحزب لأعوام طوال تتجسد حتى في الأحزاب التي تكونت في العقدين الأخيرين والتي تربو على المائة، كما أنها وقعت في ذات السلبية التي ميزت الأحزاب الكبرى والمتمثلة في امتلاك رجل واحد القرار في الحزب، وعلى سبيل المثال، فإن المؤتمر الشعبي ظل الترابي هو الممسك بكل ملفاته وقراراته ولا يستطيع أحد منازعته في القرار أو السلطة منذ تكوين الحزب قبل خمسة عشر عاماً، وذات الأمر ينطبق على الاتحادي المسجل الذي ورثه جلال الدقير من الفقيد الشريف زين العابدين الهندي.
أما حزب المؤتمر السوداني فقد التصق باسم رجل الأعمال إبراهيم الشيخ الذي كان من مؤسسيه في عقد الثمانينات عندما كان كياناً ينشط في الجامعات إلى أن تم تسجيله حزباً سياسياً، وكذلك نجد في الحزب الناصري ساطع الحاج، وفي الأمة الوطني عبد الله علي مسار، وأحمد بابكر نهار في حزب الأمة القيادة الجماعية، وظل الريح سنهوري يجلس على سدة حكم حزب البعث رغم بروز نجم محمد ضياء الدين، وكذلك ارتبط منبر السلام العادل برئيسه الطيب مصطفى، والإصلاح الآن بغازي صلاح الدين و”أقم” بمحمود عبد الجبار، وذات الواقع ينطبق على الإصلاح والتجديد ومبارك الفاضل، وحتى الأحزاب الجهوية فإنها تدور في فلك رجل واحد ظل يجلس على المنصب الأول ويمتلك القرار ومنها مؤتمر البجا بزعامة موسى محمد والأسود الحرة وقائده الدائم مبروك مبروك سليم، وحزب الشرق الديمقراطي الذي تتزعمه آمنة ضرار، وأمراض سيطرة الرجل الواحد على الرئاسة والقرار طالت حتى الحركات المسلحة التي ظلت حصرية لأسماء محددة مثل خليل إبراهيم ثم شقيقه جبريل وعبد الواحد محمد نور ومني أركو مناوي ومالك عقار في الجبهة الثورية.
فاقد الشيء لا يعطيه
القيادي السابق بالاتحادي المسجل المهندس معتصم عز الدين وقبل الإجابة على تساؤلنا حول أسباب اختزال الأحزاب السودانية في شخص واحد، أشار إلى أنه وقبل أيام قرأ حواراً لرئيس منبر السلام العادل المهندس الطيب مصطفى في معرض رده على الصحفي عثمان ميرغني، وقال إن إحدى إجابات مصطفى اوستوقفته، وذلك حينما قال: ” على كل حال أنا عندي حزب”،واعتبر معتصم الإجابة دليلاً واضحاً على سيطرة الأفراد على الأحزاب، وقال إن الطيب مصطفى كان عليه أن يقول إنه ينتمي لحزب وليس “عنده” حزب، ويرى أن هذه العقلية هي التي تسيطر على الأحزاب حيث يعتبر الكثير من رؤساء الأحزاب أنها ملك خاص بهم، ويكشف في حديث لـ(الصيحة) إنهم في المبادرة الشعبية التي أطلقوها من بورتسودان أكدوا أن الديمقراطية الحقيقية يجب أن تبدأ من داخل الأحزاب، معتبراً أن إلصاق كلمة وطنية على الكثير من الأحزاب يجب إعادة النظر فيه وذلك لأن أحزاباً وطنية تعني أنها مملوكة للمواطن الذي يملك فيها رأياً وكلمة ولا يسيطر عليها أفراد محددون، معتبرًا أن 99% من عضوية الأحزاب عبارة عن خدام أو ضيوف لا يفكرون في أن يجلسوا على منصب الرجل الأول بالحزب وإذا فكروا في ذلك فإن هذا في نظر الكثيرين يعتبر تعالياً، مرجعاً هذا الأمر الى عدم الوعي وامتلاء الساحة السياسية بالأصوليين والجهلاء، مؤكداً أن الكثيرون فضلوا الابتعاد عن الأحزاب بداعي “الهرجلة” وافتقادها الممارسة الديمقراطية الحقيقية، وقال إن هذا يفتح المجال واسعاً للأحزاب الجهوية للظهور، وقال إن مفردة رجل واحد تعني أن ثلاثة أو أربعة أشخاص يسيطرون على الحزب وأحياناً رجل واحد، هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، مشيرًا إلى أن تجربته في الاتحادي المسجل أوضحت أن من يعمل على إحداث تغيير داخلي في الأحزاب يكون مصيره الإبعاد والتهميش، معتقدًا أن عهد الكاريزما قد ولى إلى غير رجعة بداعي تطور المجتمعات والمتغيرات التي تحدث عالمياً وداخلياً، وقال إن المؤسسية باتت المنهج الأفضل لإدارة الأحزاب وليس الأشخاص وأنهم عملوا على ترسيخ هذا الفهم داخل الاتحادي إلا أن الدولة وقفت بجانب قيادة الحزب وعلى إثر ذلك فضلوا الابتعاد، ويؤكد المهندس معتصم عز الدين أن الأحزاب السودانية تدار بطريقة الأندية والإدارة الأهلية ولا علاقة لها بالعمل السياسي المرتكز على المؤسسية.
من ناحيته يشير القيادي بالاتحادي الأصل، الدكتور علي السيد، الى أن الإنسان بطبعه يخشى التغيير، لذا يظل متشبثاً بالمنصب الذي يجلس عليه، ويقول في حديث لـ(الصيحة) إن معظم الأحزاب الوطنية القديمة نشأت على علاقة الالتزام مع الشخص المؤسس للحزب وقائده وراعيه، وأن الولاء الشخصي يكون هو السائد وليس سياسة الحزب، ويرى أن هذا أسهم في تحول الولاء للشخص الى عقيدة يتمسك بها الأعضاء ويرفضون التخلي عنها رغم أن الأحزاب السياسية لا تدار بالولاء والعاطفة، ويلفت إلى أن الاتحادي والأمة يعتبران من الأحزاب التقليدية التي قامت على الولاء للطريقة الصوفية والطائفة قبل الالتزام السياسي، وأردف: أما الأحزاب العقائدية فإنها تتعرض للانشقاقات إذا ما تنحى الرجل الأول فيها رغم أنها تقوم على أفكار، وذلك لأن الشخص الذي يقود الحزب يكون مسيطراً على الآخرين وهذا يجعلهم لا يلجأون للتغيير خوفاً من الانشقاق ومن أجل ذلك أيضاً يحافظون على الولاء الشخصي، ولكن مؤخرًا بدأ هذا الأمر يتغير، إلا أنه ورغم قيام المؤتمرات فإنه تتم إعادة انتخاب القائد خوفاً أيضاً من الانشقاقات،لافتاً الى أن هناك أحزابا لا تقيم مؤتمرات مثل الاتحادى لذلك يظل القائد باقياً لوقت طويل، وهذا يعود الى عدم الاهتمام بالمؤسسية الحزبية وطغيان عاطفة “الأبوية”، ويرى أن هذا أمراً سالباً لأنه في هذه الحالة ينتفي مبدأ تواصل الأجيال والتجديد، وقال “ولكن مع مرور الزمن فإن الأحزاب البرامجية التي ليست لها نظرية سياسية يمكن أن تتغير ولكن هذا يحتاج لزمن طويل”.
العاطفة تسيطر
ويشير المحلل السياسي البروفسير صلاح الدين الدومة إلى أن الأحزاب في السودان بدأت بمبادرات شخصية، ضارباً المثل بحزبي الأمة والاتحادي، وقال إن الرجلين اللذين قاما بإنشائهما كانا من القلة التي تمتلك مالاً في ذلك الوقت وأنهما حظيا بدعم من الجهات التي كانت تدير البلاد في ذلك الوقت لذلك ظلا يسيطران على الحزبين حتى رحيلهما ليرثهما أبناؤهما وأحفادهما، وقال لـ(الصيحة) إن التأثير العاطفي في الأحزاب السودانية يبدو واضحاً وسبباً مباشرًا في سيطرة أشخاص محددين عليها، لافتاً الى أنه حتى الأحزاب التي تم إنشاؤها عقب الاستقلال وحتى الآن لم تختلف كثيراً عن الاتحادي والأمة ووضحت عليها سيطرة من قاموا بإنشائها أو الذين يدعمونها بشكل مباشر، وأضاف: هيمنة فرد محدد على الحزب بالتأكيد له انعكاسات سالبة على أداء القوى السياسية بصفة عامة ومدى تأثيرها في المجتمع والمشهد السياسي لأن هذا الأمر يسهم في تغييب المؤسسية، ومن ثم يؤثر سلباً على أداء الحزب، وقال: الولاء المطلق لرئيس الحزب من ناحية عاطفية يتعارض مع الإصلاح ويقف حجرة عثرة امام أي تغيير، مؤكدًا أن هذا يجعلها أحزاباً فاقدة لدروها الحقيقي في المجتمع بل تنتفي عنها صفة الأحزاب.
غياب الفكرة
من ناحيته يشير المحلل السياسي عبد الله المتعارض الى أن الأحزاب السياسية من أهم منظمات المجتمع المدني لأنها تؤسس على فكرة الطوعية لخدمة قضايا العامة، وقال في حديث لـ(الصيحة) إن الأحزاب مؤسسات مفتوحة للعامة، ويضيف: إن كل من يؤمن ببرامج الأحزاب القاصدة لحل مشكلات المجتمع المعني أمنياً وسياسياً وغيره يعد عضواً شريكاً بطوعه فيها، وبهذا الفهم فهي تعد من أهم أوعية ومواعين التداول السلمي للسلطة بين أبناء الوطن الواحد عبر آليات الديمقراطية المعروفة ومنها الانتخاب والاقتراع والترشح، إلا أن المحلل السياسي يعتقد أن ما يحدث حالياً في الساحة السياسية لا علاقة له بالديمقراطية الحزبية، ويقول إن التدخلات السلطوية والقبلية والعقائدية والكاريزما وبعض الأسر الطائفية وبعض شركات الأثرياء أثرت سلباً على الأحزاب وحولت الممارسة السياسية داخلها الى نوع من الديكتاتورية المدنية التي لا تختلف عن بقية الديكتاتوريات، وقال: لا أحد يستطيع التفكير في قيادة الأحزاب الكبرى الموجودة في الساحة بحياة من يتزعمونها حالياً.
مصر يا أخت بلادي
يبدو أن تأثير القوى السياسية السودانية بنظيرتها المصرية لم تتوقف على الفكرة التي قامت على إثرها الكثير من الأحزاب بجنوب الوادي، بل حتى على صعيد التناسل حيث وصلت الأحزاب المصرية بعد الثورة الى مائة حزب، وهذا ليس مربط الفرس ووجه التشابه الثاني بل يجمع بينهما أمر ثالث أجمله الدكتور سمير غطاس مدير مركز الشرق الأوسط، الذي إشار الى أن الأحزاب المصرية بشكل عام تعاني من أزمات كبيرة بعيداً عن مطالبتها بالدعم من قبل الدولة، فهذه الأحزاب ليست بها ديمقراطية ومبنية على مبدأ شخصية مشهورة أو غنية تمتلك رأس المال الذي يعد أحد أبرز ما يهدد البرلمان بالفساد، وينتج برلماناً ضعيفاً، وأضاف غطاس أن الحل هو وجود أحزاب حقيقية، ليس هذا الكم الذي لم يسبق وجوده في أي دولة ديمقراطية، ودمج الأحزاب المتشابهة في أفكارها وأهدافها، وأن توجد مجموعة صغيرة من الأحزاب تكون قادرة على تمثيل المواطن، وتستطيع جذب المزيد من المواطنين.

الصيحة


تعليق واحد

  1. للجوء لممارسة الديمقراطية وجب علينا ان نقبل بلكوارث والتبعات المدمره للوطن والمواطن ويجب علينا ان نضحي بأجيال حتي تنموا عندنا قيمة الممارسة اليمقراطيه
    هذا قيل وفي رأي الخاص ان الدكتاتوريه الخيره أنجع طريق لإجراء قرارات تمضي الدولة في وضعها علي ارض الواقع ولمده زمنيه تتراوح علي حسب المشروع السؤال الذي يطرح نفسه متي وكيف يأتي هذا الدكتاتور الخير لان الوضع العالمي الحاضر لا يسمح بذلك
    وكثير من الحكومات الشموليه جلها جاء للإصلاح وان لا أشك في ذلك ولكن دائماً تصدم بأناس غيرهم يعتبرون أنفسهم انهم احق بلحكم منهم وهذا لا يتعارض مع الطبيعه البشرية وإبداء الرأي والمشوره من اجل الصالح العام ولكن علي هؤلاء ان يكونوا خير بديل هل هم فعلاً خير بديل
    وان كانوا كما يقولون عليهم ان يطمنونا ويفتحوا لنا ماهي قيمة الديمقراطيه عندهم قبل ان يجثوا علي صدورنا