د. ياسر محجوب الحسين

وحدة السودان .. الواقع والمأمول


تحت ضغط فشل الدولة الوليدة في جنوب السودان تزداد وتيرة اعترافات الساسة الجنوبيين بخطأ انفصال الجنوب عن الدولة الأم. وكل ذي بصيرة يعلم مدى فداحة هذا الخطأ الاستراتيجي؛ وليس الخطأ يتحمل وزره السياسيون في الجنوب ولكن للسياسيين في الشمال أيضا قدح معلى ووزر أثقل.. قبل أيام قال وزير التعليم السابق بدولة جنوب السودان، أن الانفصال كان خطأً وقدراً، وعزا الخطوة لسببين الأول قدري تمثل في وفاة زعيم الحركة الشعبية جون قرنق وصعود المجموعة الانفصالية لسدة الحكم، والآخر تفشي النزعة الانفصالية لتحليل خاطئ.
ومضى الرجل يقول في ندوة بالخرطوم: “لقد ثبت عدم صحة النزعة الانفصالية بدليل عودة مئات الآلاف من مواطني جنوب السودان إلى السودان مرة أخرى”.
لقد حصدت الحرب الأهلية المشتعلة حاليا في الجنوب منذ بضع سنين من المواطنين الأبرياء أكثر مما حصدته الحرب بين شطري الوطن المقسم خلال أكثر من خمسين عاما حسوما.. كما تراجع مؤشر التنمية كثيرا بل التهمت نيران الحرب النذر اليسير مما تحقق.. وأصبحت البلاد وثرواتها نهبا لأطماع دول الجوار والتدخل السافر في شأنها الداخلي.
وبعيد الانفصال وفترة ما قبل اشتعال الحرب الأهلية توترة علاقات الخرطوم وجوبا لدرجة المواجهة العسكرية بين جيشي البلدين، ولم تتحق النتائج المرجوة من مقايضة الانفصال بالسلام.. الرئيس عمر البشير قال في جوبا وهو يخاطب احتفال الدولة الوليدة بالانفصال: “إن أسوأ سيناريو يمكن أن نتوقعه بعد الانفصال استمرار الحرب بين الطرفين، لأننا قدمنا وحدة البلاد مهراً غالياً لنحصل على السلام”..
صحيح أن المستعمر البريطاني خطط لفصل الجنوب واستن لذلك القوانين المفرقة بين أبناء الوطن الواحد وأوغر الصدور؛ لكن ذلك لا يعفي النخب السياسية من المسؤولية فالمستعمر غادر منذ 60 عاما وهي فترة كافية لاستيعاب الدروس والعبر.. فالتخلف الذي تعيشه أقطار القارة الإفريقية بشكل عام هو نتاج لتراكم أوضاع تاريخية مرتبطة بدخول الاستعمار إلى القارة وأيضا بسبب عجز الحكومات الإفريقية بعد الاستقلال عن إدارة الموارد التي تزخر بها القارة، فالتخلف الاقتصادي على سبيل المثال ليس بسبب نقص الموارد الطبيعية.
ولا نقول أن النظم السياسية التقليدية في إفريقيا ما قبل الاستعمار كانت نظماً ديمقراطية بالمفهوم الغربي الحديث لكنها كانت ملائمة على الأقل لطبيعة القارة لم ينتج عنها تلكم الاشكاليات الماثلة.. فقد ساد إفريقيا ما قبل الاستعمار نمطان أساسيان للسلطة والحكم: النمط الأول؛ قبائل ذات كيانات متعددة بنظم سياسية مختلفة تحكم نفسها بنفسها. أما النمط الثاني؛ قبائل تخضع لحكم أو حماية قبائل أخرى، سواء طوعاً أو كرهاً. بيد أنه بعد الاستعمار أصبحت الانقلابات العسكرية الآلية الرئيسة لانتقال وتبادل السلطة في إفريقيا.
السؤال هل يعيد البكاء على اللبن المسكوب عقارب الساعة إلى الوراء؟ وهل الحلم بعودة الوحدة بين شطري السودان أمرا واقعيا؟. ربما يتجسد في المستقبل لدى البعض من المتفائلين، وفي الذاكرة عودة ألمانيا موحدة رغم أنف حائط برلين الشهير.. عودة الحلم لابد وأن تتأسس على إرساء أسس الشراكة بين مصالح المواطنين بشطري السودان وكفالة الحريات الأربع: حرية التنقل وحرية الإقامة وحرية العمل وحرية التملك، وقسمة الأصول الثابتة ومعالجة الديون الخارجية واستمرار تدفق نفط الجنوب عبر أراضي الشمال، فضلا عن حرية تجارة الحدود، وتحقيق التعايش الآمن في المناطق الحدودية.
المتفائلون يعتقدون أن فرص الوحدة تتراءى، وإن كانت بعيدة. ويشيرون إلى إطلاق الجنوبيين اسم “دولة جنوب السودان” على دولتهم الوليدة، فيه باعتباره إشارة إلى إمكانية العودة. كما أن ملايين الجنوبيين الذين عادوا ميممين شطر الشمال جراء الحرب الأهلية واستقبال السودان لهم يعد خطوة إيجابية يمكنها تحريك كثير من العواطف بين البلدين.
جهود المجتمع الدولي أساسية لمساعدة البلدين من خلال العمل على وقف الحرب الأهلية في دولة جنوب السودان وإعادة بناء قدراتها، وبناء جيشها النظاميا، وتسريـع عجلـة التنمية فيها، وتقديـم الخدمـات الضروريـة لمواطنيها، فضلاً عن بسـط الأمـن، والعمـل على عدم إثارة الصراعات القبلية. ومن ناحية ثانية، تنمية الشمال وتطويره عن طريق تقديم الاستشارات الفنية له أسوة بالجنوب. فالشمال الضعيف عامل تهديد قوي لاستقرار الجنوب، وبالتالي فإن تقوية الدولة الأم وتنميتها هما ضمانة لبقاء الدولة الوليدة واستقرارها ومن ثم بناء الوحدة على أسس جديدة وراسخة.. لكن من ينتظر المجتمع الدولي يلهث خلف سراب يحسبه ماءا.
ولعل الاتفاق الأخير بين فرقاء دولة الجنوب (الرئيس سلفا كير ونائبه السابق وزعيم المتمردين رياك مشار)، أعاد الكرة لمربع الواقعية السياسية ليبقى سلفا كير رئيسا ويعود مشار نائبا.


تعليق واحد

  1. الأخ أستاذ ياسر لقد حوى مقالك الكثير من التناقضات ، مع خالص إحترامي لرأيك بخصوص ( الحُلم الذي لا حققه الله) عودة الجنوب إلى حضن السودان ، وذكرتَ في مقالك على لسان الوزير الجنوبي (“لقد ثبت عدم صحة النزعة الانفصالية بدليل عودة مئات الآلاف من مواطني جنوب السودان إلى السودان مرة أخرى”.) والسؤال هنا هل كان هؤلاء العائدين يعودون بهذه الكثافة لولا قيام الحرب بين باروناتهم؟ وهل هذا يعني أن شعب جنوب السودان (ضُغِطَ) للتصويت للإنفصال أولاً وبعد الإنفصال (ضُغِطَ) عن طريق الحرب للرجوع للشمال؟. ( وكل ذي بصيرة يعلم مدى فداحة هذا الخطأ الاستراتيجي؛ وليس الخطأ يتحمل وزره السياسيون في الجنوب ولكن للسياسيين في الشمال أيضا قدح معلى ووزر أثقل.) وفي إعتقادي لا يتحمّل السياسيين في الشمال أو في الجنوب منذ خروج الإستعمار وحتى تاريخ اليوم وِزر الإنفصال بل يتحمّلهُ السياسيون ( من الشمال والجنوب) إبان فترة الإستعمار خاصّة أولائك المُعاصرين للجنة السكرتير الإداري روبرتسون رئيس لجنة دراسة رأي السياسيين الجنوبيين في الجنوب الذين (زوّر) روبرتسون إرادتهم سواءاً كانت رغبتهم الإنفصال أو أياً ما كانت رغبتهم آنذاك ، فهؤلاء هم من يتحملون وِزر الإنفصال وليس السياسيين في كل الحكومات بعد خروج المستعمر. مرة أخرى لا لعودة الجنوب لحضن الشمال لأن ما طرحه الرئيس البشير عند الإحتفال بإنفصال الجنوب في جوبا عندما قال:”إن أسوأ سيناريو يمكن أن نتوقعه بعد الانفصال استمرار الحرب بين الطرفين، لأننا قدمنا وحدة البلاد مهراً غالياً لنحصل على السلام”.. هذا ما تمثّل في عدم ترسيم الحدود ونزاع منطقة أبيي( السودانية) بإعتراف سلطان دينكا نوك في أبيي وإنكار حكومة سلفا كير المشاركة في دفع ديون السودان ، ودعم حكومة الحركة الشعبية للحركات الدارفورية المتمردة وإيوائهم ومدِّهم بالسلاح والأموال ( أياً كانت مصادر هذه الأسلحة والأموال)، وهذا غيض من فيض المشاكل التي ترتّبت بعد الإنفصال ، لذلك واهمٌ من يتخيّل عودة الوحدة بين (النقيضين) مرة أخرى ودونك تواجدهم بمعسكرات اللاجئين حول العاصمة وبعض المدن الأخرى وما يتواجد فيها ( المعسكرات) من صناعة الخمور البلدية والأسلحة وعصابات النقرز وما خُفيَ كان أعظم ، لكل هذه الأسباب تستحيل الوحدة مرة أخرى ودونك التعليقات في الأخبار التي تتناول هذا الموضوع منذ أن تمّ الإنفصال الذي لم يكن يتوقعه الكثير من أبناء الشعب في الشمال. وبالنسبة لتسمية دويلة الجنوب ب( جنوب السودان) فهذا المُسمّى أعتقد أنّه أُجيز من الدول التي كانت تدفع لإنفصال الجنوب وضغطت بكل ما تملك من سُلطة على المجتمع الدولي وأغرت السودان ودويلة حنوب السودان بالأماني بإعفاء ديون السودان إذا وافق على الإنفصال و وعدتهم في الجنوب أن بلدهم ستكون جنة الله في الأرض بعد الإنفصال، ولكن خيّب الله ظنّهم وآمالهم أصبحت سراب . وهناك أيضاً فرق كبير وشاسع في التشبيه بين رجوع الألمانيتين للوحدة فهولاء أصلاً شعب واحد فرّقته السياسة( الشيوعية والرأسمالية) ولكن المُشتركات بين الشماليين والجنوبيين لم تكن بالقوة التي تُساعد في ضمّ البلدين مرة أخرى فالإختلافات كبيرة وكثيرة وليس من السهولة التغاضي عنها والتقارُب خاصةً بعد ما ظهر ما أخفاهُ الزمن منذ خروج المستعمر ، لذا على الحالمين بعودة الوحدة أن يتوقفوا عن أحلام اليقظة في التنمية الموعودة من المجتمع الدولي للدولتين و مساعدتهم ومن ثم بناء الوحدة على أسس جديدة وراسخة.. لكن من ينتظر المجتمع الدولي يلهث خلف سراب يحسبه ماءا. وفعلاً بالعودة لوعود المجتمع الدولي قُبيل إنفصال الدولتين هل نفّذ منها المجتمع الدولي ولو ما يُماثل نُقَيرَها ؟ فهل ينتظرون من كُشِفَ كذبه ومُراوغته أن يُوفي بوعد هو نفسهُ أول من يعرف أنّه لا ولن يٌنفذه؟.