مقالات متنوعة

منى عبد الفتاح : الثورة وتحرير الإرادة


“من عوامل سقوط الدولة استحواذ مجموعة من المرتزقة والفاسدين على الحاكم حتى يكونوا سمعه وبصره فيزينوا له القبيح ويقبحوا له الحسن”. ابن خلدون. ومن تقبيح الحسَن، الطعن في الثورات الشعبية ضد الديكتاتورية واستغلال السلطة والفساد، وتضييق الخناق على الشعب.

هذا ما حدث أوان بادرة ربيع سوداني خجولة تم وأدها في مهدها. حينما انتفض الشعب محتجاً بشكل سلمي على قرار سابق قضى برفع الدعم عن المحروقات، عُرفت باسم انتفاضة سبتمبر. وجاء الاحتجاج من الشعب السوداني الذي رأى أنّ سنواته تكلّلت بالضيم المتنامي عبر أكثر من عقدين من الزمان، حيث ظهر بعض المتخاذلين ليجرموا هذا الفعل، ويرجموه بقذائف مقالاتهم. بذل أحد الكتاب مجهوداً جباراً في مقالة له من جزأين اختار لها عنواناً حاذقاً:” كيف تعامل القرآن مع اندلاع الثورات”. حشد الكاتب آيات الذكر الحكيم ووظّفها ليثبت تلميحه بأنّ القرآن ضد الثورات وضد الاحتجاج السلمي، بل اقترب من مصادرة حق البحث على غيره بإضافة هالة من القدسية على ما كتبه مما ضيّق من هامش الاختلاف معه.

من ضمن أسباب الثورة التي أوردها الكاتب هي تكدس المال وسط الطبقة الغنية وحرمان الطبقة الفقيرة منه ولكنه أدخل إبليس لاعباً رئيساً مما أعطى تلميحاً آخر بتدنيس فعل الثورة وإظهارها كفعل شيطاني رجيم :”فعندئذٍ تندلع الثورة، ثورة الفقراء على الأغنياء ويتهيأ الملعب لإبليس فيحدث الخراب والقتل والفساد والهرج والمرج بين الناس”.

ولمن أراد الاستيثاق ودحض فرية أنّ كتاب الله ضد الثورات، فما عليه إلا تدبّر بعض قصص الأنبياء التي جاء بها القرآن الكريم عن الثائرين في وجه الباطل من الأنبياء. فالمشهد الثوري لأنبياء الله إبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وموسى وعيسى، وخاتم الأنبياء محمد عليهم السلام جميعاً ينبيء عن وقوفهم ضد الطغاة ومواجهة قوتهم واستبدادهم بالصبر والثبات. واجتماع هؤلاء الأنبياء وأغراض ثورتهم كانت ضد أنظمة حكمت بأشكال متعددة من الطغيان والفساد العقائدي والأخلاقي والاجتماعي. وفي كل مثال من هؤلاء نموذجاً، فثورة أبي الأنبياء إبراهيم كانت ضد أبيه الذي فقد الحجة في عبادته للأصنام فهدّد ابنه قائلاً :”أرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا” (مريم :46). وثورة نوح كانت مثالاً للثائر الصابر المثابر حيث ظل نوح ثائراً ضد الباطل ألف سنة إلا خمسين عاماً، وكانت ثورته ضد طبقية قومه الذين كانوا لا يجلسوا مع عبيدهم فطلبوا من نوح أن يطردهم من مجلسه، فقال لهم: “وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ”. (هود: 31). ثم هددوه صراحة فقالوا: “قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ” (الشعراء :116). كما استخدم فرعون التهديد ضد موسى فقال له: “قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ” (الشعراء :29). وتطور الأمر إلى المناظرة بين سحرة فرعون وموسى، لينتصر موسى بإيمان سحرة فرعون، وينشر فرعون بأنّ من ثاروا مع نبي الله موسى هم (شرذمة): “فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ” (الشعراء: 53 – 54). أما ثورة لوط عليه السلام فقد كانت في قوم كانوا يستحلون الرجال من دون النساء فواجهوا ثورته بأن: “أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ”. (النمل: 56 ).

أما ثورة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم فقد جمعت بين الحق في التعبير في قوله صلى الله عليه وسلم: “أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ” رواه أبو داوود. ولم يتوان محمد صلى الله عليه وسلم من الجهر بكلمة الحق في وجه الطغاة ابتداءً من قريش وزعماء العرب وانتهاء بملوك الفرس والروم، ممتثلاً لقوله تعالى: “فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ” (الحجر: 94).

إنّ القرآن ليس ضد الثورات بل جاء بأخبار ثورات الأنبياء على الطغاة، حتى تظل الدعوة إلى تحرير الإرادة الإنسانية خالدة في الأرض كما أرادها الخالق لعباده.