منوعات

كان مبدعاً على طريقته لكنه غاب فجأة.. لا لم يغب.. فأصدقاؤه في “مسرح المبادرات” يرفعون الشعار “يا عمار نحنا كتار” ويحيون ذكراه بـ “1000” زجاجة دم


كان يحلم بوطن يموت لأجله فمنحته الأقدار وطناً يموت فيه ليحيا من جديد. الثامن من أكتوبر المنعوت في المخيلة السودانيه بأنه يكسو الأرض اخضراراً كانت شجرة يانعة بثمار الإنسانية تعلو لتنبت في مكان آخر، هناك في مستشفى النو الأمدرماني (عمار درار) يهزمه الحزن فيسكت قلبه عن الخفقان. مات عمار درار، ذاع الخبر وانتشر الحزن، سكن كل بوابات المدينة الكبيرة، والقلوب التي أرهقها السفر.
كان عمار أيقونة الشباب الناشطين، مبدعاً كان على طريقته الخاصة، يحمل كاميراته فيوجه عدستها حيث يريد قلبه ويشتهي، يسعى بكل جهده لتحقيق حلمه بأن يعيد إلى السينما السودانية بريقها الغائب، يصعد المسرح ممثلاً، وفي مسرح الحياة الكبير له صولاته وجولاته، يرفع الهتاف على ما يكون (سنموت ويبقي الوطن)، يتوشح سودانيته، يلبس إنسانيته يسكن قلوب أصدقائه وناس الشارع ودفعة الجامعة وشفع الحلة وأولاد وبنات الشوارع، والشوارع نفسها.
يكتب عمار درار قبل رحيله بأيام على صفحته على فيسبوك (عندما نموت يموت كل شيء فينا إلا الوطن فهو يسكننا عشقاً). كان الوطن عنده هو تلك الموضوعات الكبيرة والتفاصيل الصغيرة.
ظل الوطن بالنسبة لعمار حرية وحياة وكاميرا وجيتارا، وموقفاً إنسانياً موهوبا ودون من أو أذى للمعذبين في الأرض، كان الوطن عنده ابتسامة يضعها في أي مكان ويتركها خلفه ويمضي، كان بيتاً لمن سقط سقفه، كان حقنة لمن لا يملك (حق) العلاج، كان جنيها يمنحه لتلك الصغيرة المصابة بمتلازمة داون، كان الوطن عنده أصحابا (شالوا الهم بالجملة) وكانوا إخوانا في الإنسانية، وشالوا مع الهم مداميك الغناء بأن (حنبنيهو).
مدماك للبناء
الحزن: مدماك البناء الجديد.. الساس: (يا عمار نحنا كتار وحنكمل المشوار).. المشوار: هو أن نمضي في ذات الطريق الذي خططه الراحل طريق الإنسانية والإحساس بالآخر.. الطريق المرصوف بالحروف في وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت وكأنها مسرح خروج المبادرات.. أصحاب عمار درار يجلسون فوق (فروة) حزنهم يتناقشون وترتفع الاصوات وتهبط في الوقت ذاته وفي النهاية فإن حكاية جديدة ستكتب في ذات الشوارع. ولأن عذر العصافير الرحيل كان لابد من أن يفتحوا ظلمتهم للضوء، والضوء كان أن روح عمار ستظل مرفرفة فوق سماء الإنسانية.
في إستاك ملتقانا
“ما بتنذم علاقة دم” يقول حميد “ولن تسقط راية هدفها وطنا الزين رغم حالة الإملاق ورغم البين هي الأشواق” على الخط مبادرة شارع الحوادث التي كان عمار أحد الفاعلين فيها تخرج بطريقة مبتكرة ليس لتأبين الراحل وإنما من أجل استمرار أفعاله، يقول القائمون على أمر المبادرة إن عمار نذر حياته من أجل إسعاد الآخرين لذلك فإن ما يقدمونه لروحه ستكون مبادرة (ألف زجاجة دم لروح عمار درار) المبادرة ستبدأ في ثلاثة أيام في معمل استاك بالخرطوم (الخميس، الجمعة والسبت) وتهدف لفتح الباب أمام أصدقاء عمار لتحقيق إحدى غاياته وأن تجعل من موته مدخلاً لحياة الآخرين، المبادرة تم اختيار (يا صاحب) اسم لها والغرض منها هو التواصل مع روح عمار ووهبها كصدقة جارية له، المكان المحدد معمل إستاك ولكنها تصلح لكل مكان ففي أي حاجة يجب أن نكون هناك وأن اختيار الأيام الثلاث يمكن أن يعاد في حال لم تكتمل الألف زجاجة في المرحلة الأولى وهي الحملة التي وجدت تجاوباً منقطع النظير من كثيرين وهم ينتظرون أن تدق لحظة الحقيقة.
ساندوتشات لـ”عيال الشوارع”
عقب رحيل شاعر الشعب محجوب شريف كان باب للإنسانية ينفتح على مصراعيه كانت روح جديدة يحركها الإحساس بأن محجوب ما مات وأن قيمه ستظل محروسة ومحمية بسواعد الشباب، اختار عمار أن يصنع مشروع إعداد السندوتشات وتوزيعها على أطفال الشوارع وحين اكتمل المشروع أحس بأن كل راحة الدنيا يمتلكها بين راحتيه لذلك فإن أصحاب عمار سيضعون روحه المعطاءة في ذات المكان ويعيدون التجربة بالتزامن مع مشروع ألف زجاجة دم لروح عمار التي غادرت الجسد قبل الثلاثين هي روح يصفها البعض بأنها روح جيل يمضي في طريقه رغم كل شيء جيل يحمل الجيتار في المتحف القومي ويحمل لافتات المعارضة، يرقص في حفلات راي، يرتدي التي شيرت المرسومة فيه صورة مايكل جاكسون ويقوم في الوقت نفسه بالاحتفال بتوزيع الرايات في مناسبات استقلال الوطن، جيل يفعل ما فعله عمار يضحك من الواقع وعليه ويوظف دموع حزنه كمونة لإعادة البناء، جيل يبكي الراحلين من جحيم الحياة بضرورة أن يجعل الأرض قابلة للحياة رغم كل شيء.. يعلق صورة الراحل في بروفايله ويكتب تحتها في هذه الأرض ما يستحق الحياة. حياة يمكن أن تكون مدرسة في الفتح يبنيها الأصدقاء ويكتب على لافتتها: (مدرسة عمار درار).

اليوم التالي