احلام مستغانمي

يوم جاءنا أبي بشاحنة كتب (2)


في الواقع ، كان أبي قد تعرّض بعد انقلاب بومدين لمحاولة اغتيال بصفته أحد رجالات بن بلة ، وفقد منصبه ومصدر دخله لكنه لم يفقد عنفوانه، وعبثاً راح خالي من ورائه يشرح لصاحب المكتبة ، أننا لا ندري ماذا نفعل بكتب في الطبخ وأخرى في الاعتناء بالحدائق وثالثة عن كوبا ، وأنّ الرجل أبٌ لأربعة أولاد وأنه دفع كل ما كان يحتفظ به لإعالة عائلته .
تكرّم الرجل باستعادة كمية صغيرة من الكتب، وتركنا أمام عشرات الكراتين . وكادت أمي تفقد صوابها ، فإضافة للوضع المادي الذي تركنا عليه أبي ، كان عليها هي التي لا تتقن القراءة ، أن تتعايش مع عشرات الكتب التي أصبحنا نتقاسم معها شقتنا الصغيرة .
بعد ذلك حين دخل أبي المستشفى ، و بدأت وأنا في السابعة عشرة من العمر إلى جانب دراستي في الثانوية ، أُعدُّ وأقدم برنامجاً يومياً في الإذاعة لأعيل إخوتي ، أول ما تحسنت أوضاعنا ، أوصت أمي نجاراً بصنع مكتبة فخمة ،أخذ نقشُها من الرجل أكثر من عام ، ودفعنا ثمنها بالتقسيط على مدى أشهر .
تلك المكتبة التي غدت اليوم من نصيب أخي مراد، لولعه الوراثي بالكتب، وما عاد يدري الآن لمن يورثها ، وهو يرى المستوى التعليمي والثقافي يتدهور جيلاً بعد آخر، تختصر شخصيتنا في العائلة فرداً فرداً ، كما تختصر ما آلت إليه الجزائر بعد نصف قرن.
لقد كان أبي يحبّ الكتب كما رجال جيله، و أمي تحب المظاهر كما هو المجتمع اليوم ، و مراد يغار على كل ما هو إرث ثقافي ، و يحب الحفاظ عليه ، أمّا أنا فأعشق عنفوان أبي وعزة نفسه ، لذا ما أورثني شيئاً من مكتبته تلك ، بل أورثني جيناته .
تلك الحادثة ، أعطتني درساً لا نتعلمه من الكُتب ، بل من الأب كمرجعٍ أخلاقي .لم يكن من أحد يومها ممن يعرفون أبي، ليستحي منه إن لم يحترم وعده، كان وحده مع صاحب المكتبة .
ولا كان هناك من صحفي ليوثّق كلامه ويواجهه بكذبته أمام الإعلام ، إن لم يعد ليشتري المكتبة كلها .
لكن ، ما كان قول أبي ” عندما تخرج الكلمة تخرج معها الروح ” مجرد كلام يردده أمامنا . كرجال جيله ، كانت كلمته تساوي شرفه .اليوم أرى سياسيين جزائريين ، يعِدون ولا يفون ، ويكذبون ولا يستحون ،ويوثّق التلفزيون والأنترنيت فضائحهم ، وليسوا معنيين بأن يصغروا أمام الناس . . يعودون في الغد دون حياء ، ليقولوا عكس ما قالوه البارحة ، فمن لا يستحي من نفسه ، لن يستحي من أحد !