الصادق الرزيقي

الكل موجود!!


> حتى هذه اللحظة.. ومنذ انطلاق مؤتمر الحوار الوطني، يتضح بما لا يدع أي مجال للتشكك والارتياب، أن القضايا والنقاشات التي تدور في أروقة اللجان الست، في القضايا المطروحة، هي نقاشات جادة وحيوية بالرغم من أن وسائل الإعلام لا توجد بداخلها وتنقل كل ما يدور، ولا ندري لماذا يقاطع المقاطعون هذا الحوار وكل القضايا التي يتحدثون عنها موجودة وحاضرة بقوة، وكما أن تصوراتهم للحلول يتم التعبير عنها، فحتى المحظور والمسكوت عنه في بلادنا، هناك من تجاسر على طرحه مثل التطبيع مع الكيان الصهيوني أو علاقة الدين بالدولة وغيرها من النقاط الخلافية الحادة.
> كل شيء قابل للنقاش بلا قيود أو شروط مسبقة أو قوالب ومقترحات جاهزة، وبعض لجان الحوار كادت تتحول لساحة عراك لتباين الآراء وسخونتها والمسافة الشاسعة بين الفرقاء جميعاً. كلٌ له رأي وموقف يتباعد عن مواقف الآخرين، لكن التحاور يقرِّب المتحاورين من نقاط التلاقي شيئاً فشيئاً، فهناك قضايا يمكن أن يتوافق حولها الناس كالاقتصاد والعلاقات الخارجية ونظام الحكم والإدارة، فالآراء المطروحة حتى من المقاطعين ومن يحملون السلاح ليست ببعيدة. فالمقاصد الكلية في الاقتصاد وإدارة شؤون الحكم ونظمه والمناسب والمتاح والملائم لبلدنا ليس محل خلاف، كذلك كيف تُدار علاقاتنا الخارجية، وكيف نبنيها على المصالح والمنافع المشتركة. فهذه لن تكون عقبة كأداء تمنع الاتفاق حولها، فكل هذه القضايا تتمحور الخلافات حولها في جوانب طفيفة لا تكاد تذكر إذا نظرنا إليها في سياقاتها العامة، أما قضايا الحريات والهوية وكيفية وقف الحرب وتحقيق السلام، ففيها نسب تقديرية ومواقف مبدئية تحتاج بالفعل إلى نقاش أوسع وأعمق.
> فقضية الهوية والتباين والتنوع مثلاً، قضية عقدتها السياسة والنخب المتعلمة. فهل هناك بالفعل تباين ثقافي يجعل من الهوية قضية شائكة؟ فلو نظرنا إلى الدول التي تعيش تبايناً وتنوعاً حقيقياً، لوجدنا أن شعوبها لا تجمعها إلا المواطنة والهوية الجغرافية، فبلاد كثيرة في العالم تعيش شعوبها وسط حالة من الاختلافات والتباينات لا حصر لها، أديانها وعقائدها مختلفة، ألسنتها ليست موحدة، تقاليدها وعاداتها وأزياؤها متعارضة ومتباينة، تختلف هذه الشعوب في المأكل والمشرب والملبس والمسكن واللسان، ولكنها مع ذلك تعيش مع بعضها البعض ولم تجعل من قضية التباين والهوية معضلة كبرى تمنع تماسكها الوطني وتعايشها مع بعضها البعض.. فما بالنا نحن عقيدتنا وقبلتنا واحدة، ونتحدث بلسان واحد نتفاهم به، وملبسنا واحد وطعامنا واحد، وعاداتنا وتقاليدنا وممارساتنا الاجتماعية كلها موحدة، فلماذ نتجادل حول هويتنا الثقافية ونتمترس خلف أوهام لا أساس لها ولا وجود إلا حين ننظر إلى الجوانب المستنكرة في الحياة المتعلقة بالعصبيات القبلية والعرقية وهي ليست ذات جدوى وأساس في قياس التباينات والتنوع؟
> أما قضية الحريات، فهي ممارسة ينظمها القانون ويكلفها الدستور متى ما توافق حولها الناس وأقروها وحصنتها التشريعات. فلن يكون هناك عائق أن يلتقي الجميع عليها وتصبح مسألة محسومة، الفيصل فيها القانون والقضاء، وواضح حتى من جانب الحكومة أنها مقرة بأهمية أن تصان الحريات السياسية وتنداح، وفي ذلك منفعة للبلاد وللمجتمع المتطلع إلى واقع سياسي أفضل وحياة حزبية راشدة. فالحريات السياسية عندما تتجذر تنتهي الولاءات الأخرى سواء أكانت للقبائل أم للمهن أم للمناطق أم غيرها، وما من خلاف أن الحريات الصحفية والإعلامية هي جوهر الحرية السياسية وروحها. فالفضاء الذي توفره الحرية الصحفية يضفي على الحريات السياسية الكثير ويمنح الشعب والدولة حصانة إضافية ضد التجاذبات والعنف ويصبح الجدل بالحسنى والتنافس على الحلبة السياسية هو الأهم، وهذا كله يقود إلى قيم سليمة ودولة قوية.
> كل هذه القضايا التي يناقشها المشاركون في الحوار الوطني، إذا نظرنا إليها بتجرد كامل من دون التعصب لحزب أو جهة، هي أمهات القضايا الوطنية التي تتطلب منا جميعاً أن نحرص عليها مهما كانت المواقف وسوء النية في الجهد الذي يجري، فلن نستطيع تحقيق السلام ووقف الحرب والتبادل السلمي للسلطة والعمل على تعافي الاقتصاد وإصلاح الحكم وأدواته ومؤسساته وإقامة علاقات خارجية جيدة مع العالم والاندماج فيه، إلا عن طريق الحوار وهذه الفرصة الأخيرة التي لاحت.. ويجب ألا تضيع!!