عبد الجليل سليمان

الإرهاب باسم الإسلام 1 و 2


في مطعمي لو بيتيت كامبودج ولو كاريلون ومقهى لا بيل إيكويب، وسط باريس، كانت الأمور كعادتها تبدو هادئة ورومانسية، بينما كان رواد مركز باتاكالون للفنون يتمايلون كأغصان شجر هبت عليه ريح الروك فحركت ساكنه طرباً، وفي ذات الأثناء كان استاد باريس محتشداً بجماهير غفيرة من عشاق وعاشقات المجنونة المستديرة بمن فيهم الرئيس الفرنسي (فرانسوا أولوند) يُمنون أنفسهم بمتعة لا نظير لها، خاصة وأن الحدث هو ( مباراة فرنسا وألمانيا)، وليس بعيداً عنهم كان بعض من أرهقهم العمل الدؤوب والمتواصل خلال الأسبوع ينتشرون في الحانات يرشفون ببطء ولذة ما (تيسر) من المشروبات الروحية.
ثم، انفجارات متزامنة، أعقبتها أشلاء متناثرة وأرواح تكابد الموت، ونزيف دماء، وأصوات يردد صداها المكان وهي تهتف الله أكبر، يقول بيار جانازاك (35 عاماً) الذي كان موجوداً في مسرح باتاكالون: “سمعتهم يقولون للرهائن إنها مسؤولية هولاند، إنها مسؤولية رئيسكم، ما كان عليه التدخل في سوريا. وأضاف: لقد تكلموا أيضاً عن العراق”، لويس أيضاً كان موجوداً ساعة الهجوم على باتاكلان، لقد نفذ من الموت، وها هو يقول: “شاهدت عدداً من الأشخاص يدخلون ويطلقون النار فوراً من جهة المدخل، تمكنت برفقة والدتي من الهروب وتجنبنا الرصاص، شاهدت الكثير من الأشخاص على الأرض”.
على مسافة غير بعيدة شمالاً عند تقاطع شارعي بيشار وأليبير أمام شرفة مطعم لوبوتي كامبودج، قالت امرأة كانت في المكان: “الأمر أشبه بالمشهد السوريالي، كان الضحايا على الأرض من دون حراك” وتابعت: “الأمر جرى بهدوء ولم يفهم الناس ما حصل، وشاهدت شاباً يحمل فتاة بين يديه، بدت ميتة.
هكذا بدت باريس أول أمس، إذ تعرضت عاصمة النور لسلسلة من الهجمات الإرهابية أستهدفت ستة مواقع متفرقة، كلها تعنى بالحياة (الفن والرياضة والطعام والترفيه)، ليست من بينها ثكنات عسكرية ولا مقار أمن واستخبارات ولا إدارات حكومية، مواطنون بسطاء يطلبون بعض الترفيه ليخففوا عن أنفسهم عنت العمل اليومي ومشقته، فإذا بحوالي (140) منهم يلقون حتفهم وحوالي (200) يوضعون على شفير الموت.
أما قبل، فقد قُتل (43) شخصاً على الأقل وأُصيب (239)9 آخرون في تفجيرين انتحاريين وقعا في الضاحية الجنوبية في العاصمة اللبنانية بيروت، فيما لقي قبل ذلك بقليل، حوالي (224) سائحاً روسياً، بينهم (17) طفلاً ذات المصير وهم معلقون في سماء سيناء المصرية على متن طائرة كانت عائدة بهم من مصيف شرم الشيخ على البحر الأحمر إلى سان بطرسبيرج.
القاسم المشترك الأعظم في إنتاج الموت على هذا النحو القبيح واللا إنساني، هو أن مقترفيه يفعلون ذلك باسم الإسلام (السُني)، حيث أعلن تنظيم ما يُسمى (داعش) مسؤوليته عن تفجيري ( سيناء وبيروت)، فيما يبدو أنه الفاعل الأرجح في أحداث باريس، حيث كان القتلة يرددون (الله أكبر) ويتحدثون عن سوريا والعراق، لكنهم وعوضاً عن خوض المعركة في ميدانها الحقيقي، يستهدفون الخواصر الرخوة حيث الأبرياء من السياح ورواد الترفيه، فعن أي إسلام يتحدثون يا ترى؟ ولنا عودة.

الإرهاب باسم الإسلام 2-2
قلنا أمس إن الضربات التي تشنها جماعات الإسلام السياسي السني المتطرفة، دوماً ما تكون خارج جبهات القتال وميادينه. ولم أكد أكمل جملتي وأختمها بنقطة، حتى كان صوت الباحث الفرنسي في الجيوبلوتيكا (ميشال غويا) يطرق أذني مُسميٍّاً ما يدور الآن في الشرق الأوسط ويتنقل بين الحين والآخر إلى أوروبا وأميركا بأنه حرب عالمية ثالثة بدون جبهات قتال. ولكن، في التفاصيل الصغيرة لهذه الحرب خارج الجبهات نجد أن الإسلام السني يخسر أكثر مما يكسب، فبعيد تفجير الطائرة الروسية، وهجمات ضاحية بيروت الجنوبية وأحداث فرنسا التي تبناها (داعش) أمس، بعد كتابتنا (للعمود)، كان كل شيء، مؤتمر (فيينا) ينقلب رأساً على عقب، وبعد أن كاد الاجتماع يبوء بالفشل إثر خلافات حادة بين الدول الفاعلة في سوريا حول مصير بشار الأسد، جاءت الهجمات الإرهابية التي ضربت باريس برداً وسلاماً على الأسد وحلفائه، حيث أعلن وزير الخارجية الأميركي جون كيري أنهم توافقوا على جدول زمني يقضي بحل الأزمة السورية يتضمن تشكيل حكومة انتقالية خلال ستة أشهر وتنظيم انتخابات خلال 18 شهراً، دون الإشارة إلى مصير الأسد، بينما اعتبر الجميع أن الحرب على الإرهاب هي الأولوية، ثم (يُنظر و يُفاد) في بقية المسائل أسفلها، عبر حوار (سوري/ سوري) برعاية دولية، دون الجماعات الإرهابية، خاصة (داعش والنصرة) وآخرين لم يسموا إلى الآن، الأمر الذي خلط أوراق المتحالفين ضد نظام الأسد، الأمر الذي حدا بوزير الخارجية السعودي عادل الجبير بالإسراع بالتصريح لوكالة رويترز بأن الأطراف اتفقت على مواصلة المشاورات، وإن الاجتماع لم يتوصل لاتفاق مشترك بشأن مصير الأسد، فيما لا تزال المعارضة السورية (تجعجع) بخطابها القديم. خطورة ما تنتجه الجماعات السُنية المتطرفة من عنف همجي بإدارة معاركها خارج جبهات القتال، وفي الأماكن الرخوة التي تعج بالأبرياء من المدنيين، يتمثل في خلق تعاطف كبير مع التيار الشيعي في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين، ومع المجموعات الثقافية من السكان الأصليين كالأكراد والأمازيع إزاء المجموعات العربية الطاغية، ومع أقليات دينية وعرقية أخرى كالمسيحيين والتركمان والآيزيدين والأشوريين والكنعانيين والكلدانيين والدروز والبهائيين والنوبيين وخلافهم. إذ بدأ يتشكل تيار( رأي عام) دولي متنامٍ بأن الجماعات السنية دونها غيرها من جماعات الإسلام السياسي كالشيعة والزيديين والعلويين، هي التي تجترح العنف خارج (جبهات القتال)، إذ لم يحدث أن قامت مجموعات تنتمي لحزب الله، أو أنصار الله (الحوثيين)، أو الحرس الثوري أو … غيرها، بتفجير ونسف أماكن يؤمها المدنيون الأبرياء. وفي هذا السياق قال فابريس روبير، رئيس (كتلة الهوية) الفرنسية اليمينية، إنهم اكتشفوا الآن أن الخطر الداهم يتمثل في الإسلام السني، وأن الصوفية والشيعة مسالمون ولا يقتلون الأبرياء، وبشكل عام فإن الإسلام كله يُمثّل خطراً على العلمانية وعلى قيم الحضارة الأوربية، لكن خطر الإسلام السُني بالذات يتجاوز الخطر الذي مثّله هتلر. الآن، ماذا ربح الإسلام السني (السياسي) بإنتاجه لتلك الجماعات الإرهابية المتطرفة، من يريد إجابة ناجعة فلينظر إلى العراق، اليمن، سوريا، إيران، إلى أي الاتجاهات تتقدم ومن أيها تنحسر وتضمر.