حوارات ولقاءات

المصور صاحب اللقطة الشهيرة، الذي وثق للاستقلال في حوار مثير


عندما تحل ذكرى الاستقلال وأنت في جنوب دارفور خاصة نيالا أول ما يتبادر إلى ذهنك الناظر دبكة الذي تقدم بمقترح الاستقلال من داخل البرلمان والمصور الصحفي محمد عبدالرسول صاحب اللقطة الشهيرة للحظة رفع العلم والمتداولة في الوسائط ووسائل الإعلام.
هذا كان حالي وأنا بالبحير ولكن كان الأقرب إلى حي كرري الذي يسكن فيه عبدالرسول مقارنة بعد الفرسان، حيث منزل أسرة دبكة، فذهبت إلى مصور اللقطة التاريخية برفقة عدد من الزملاء واستقبلنا بحفاوة وجلسنا معه في فناء المنزل بالرغم من برودة الجو، وعند صلاة المغرب كان معنا في الصف قوياً، وقبل بدء التحاور قال لنا مازحاً إنه كبر وقد يكون نسي الكثير من الأحداث، ولكن في الحقيقة تذكر ما مر به وبدقة حتى أنه قرأ علينا أول قصيدة درسها عند دخوله المدرسة.

الحوار الذي أجريته معه بمنزله العامر، مر بمحطات عديدة بدءاً من نشأته وامتهانه للتصوير، مروراً بالاستقلال وذكراه والعمل مع الرؤساء، والأحداث القديمة التي وثقها.

٭ بداية أطلعنا على جانب من بطاقتك التعريفية؟
– أنا محمد عبدالرسول يونس خليل من مواليد عام 1922م بمنطقة «حامية رتكي» جنوب كاس، وحامية رتكي هذه بلغة أهلنا الفور، تعني البئر السخنة، عملت مصوراً منذ العام 54 إلى الثمانينيات.
٭ ما هي الدواعي التي أتت بك إلى الخرطوم في ذلك الوقت؟
– أتيت مع عمي الذي كان يعمل في قوة دفاع السودان بعد الحرب العالمية الثانية عندما زارنا في طريقه من ليبيا إلى الخرطوم، وقال إنه سيدخلني المدرسة، أبوي وافق وجينا من نيالا حتى النهود عن طريق «بعير» ثم ركبنا عربية بجنيه من النهود حتى الأبيض، والجنيه كان بيجيب بقرة، بعدها إلى الخرطوم وسكنت في بري المحس، درست في مدرستها التي وجدت فيها الرجل الطيب الأستاذ أبوزيد موسى والذي أدخلني أولى أولية، ووجدت فيها 11 تلميذاً، وأنا الخلوة نفعتني، فقد درست أولى وتانية في سنة واحدة وتالتة ورابعة في سنة واحدة، بعدها دخلت المتوسطة ولم أكتفِ بذلك، كنت أدرس اللغة الإنجليزية مع واحد في أم درمان وفي ذلك الوقت لاحظت أن مرتب عمي بسيط قلت لازم اشتغل عشان اعتمد على نفسي.
٭ إذن ماذا فعلت؟
– مشيت مخازن حكومة السودان وجدت خواجة قلت له أنا داير شغل، طالبني بكتابة طلب كتبتو بالإنجليزي، بعد ما قرأه قال لي تجي بكرة بدري، وفي الصباح عندما أتيت شغلني مساعد مخزنجي في المخازن وهي كانت رئاسية فيها طابعات وأوراق، لذلك تجدني أذهب للسكة حديد وللمطار، كان عندنا طائرتان فقط.
٭ كم كان راتبك آنذاك، وهل يكفيك للمعيشة؟
– راتبي كان عشرة جنيهات، وفي ذلك الوقت كانت كثيرة، ولم يكن لديّ حينها اهتمام بأمر المعيشة.
٭ كيف التحقت بالإعلام والصحافة؟
– عملنا في المخزن كان منذ الصباح وحتى الثانية ظهراً، بعدها كنت أذهب إلى جريدة الرأي العام، وهذا كان في عام46، عملت معهم مندوباً لتوزيع الصحيفة في المدن السودانية وبلدان العالم، كانت مهمتي وضعها في ملفات وإرسالها عبر الطائرة للمشتركين في العواصم مثل لندن وواشنطون، وناس الخرطوم كانوا بسموني محمد الرأي العام.
٭ ما هو المبلغ الذي كنت تتحصل عليه نظير هذا العمل؟
– إسماعيل العتباني كان يعطيني 15 جنيهاً.
٭ ماذا استفدت في فترة عملك بالرأي العام؟
– تثقفت كثيراً، والجرايد كانت ثلاثة فقط: الرأي العام والسودان الجديد وجريدة التلغراف، بعدين كانت في نيوزبيبر بتاعت الإنجليز.
٭ مسيرة التصوير هل بدأتها في الرأي العام؟
– لا أبداً كان هنالك مصور في مكتب الاتصال العام اسمه صادق أتاني يوماً وقال لي تعال اشتغل معنا في المكتب وكان مديره وقتها مستر اربرت إنجليزي، وفعلاً ذهبت وعملت معهم متدرباً، والمكتب الآن هو وزارة الإعلام الحالية.
٭ هل كنت تصور المناسبات أم ماذا؟
– زمان ما في مناسبات كثيرة والمظاهرات كانت تخرج من المصالح الحكومية، وفي هذا أذكر إضراب ناس عطبرة عام 1955م الذي أعلنوه وشمل كل السودان حتى أجبر الحكومة على زيادة رواتبهم، وكذلك إضراب ناس البوليس الذي استمر 40 يوماً في نفس العام، ولم يواصلوا بعد رضوهم، ولكن أهم الأحداث التي نصورها زيارات الرؤساء والمسؤولين، حيث كانت لنا غرفة في مطار الخرطوم خاصة بالمصورين، وبعد تصوير أي حدث نعمل «كابشن» في الصورة أي نكتب عليها اسم صاحبها وصفته ثم نضعها في صندوق بمكتب الاتصال والذي خصص لكل صحيفة صندوقاً للصور الخاصة بها يأتي مندوبها لأخذها لكي تطلع في العدد الصادر.
٭ نريد أن تخبرنا عن محطات مهمة مررت بها وذكريات؟
أذكر عند افتتاح السكة حديد فى نيالا مع الراحل إبراهيم عبود كنت أنا أول من نزل من القطر فى يوم تسعة تسعة الساعة تسعة سنة 1959م، وبعد نزولي للتصوير نزل عبود لقص الشريط، كذلك فى افتتاح خط واو بالمجلد رافقت عبود أيضاً، وأثناء العمل طلبت منه أن ياخذ قضيباً حديدياً بيده لكي أصوره وهو يعمل، وفعلاً استجاب وصورته، ولكن من الأحداث المضحكة أنني كنت مرافقاً لإبراهيم عبود في رحلة من خشم القربة، وفى طريق العودة كان الرئيس (يتونس) مع مرافقيه وأنا كنت أركب خلفه مباشرة، وفي أثناء الحديث توقفت مروحة المروحية، فصمت الجميع بشكل مفاجيء فضحكت ضحكة عالية سمعها عبود، فقال لى (بتضحك ليه)، فقلت له (إنته سكته ليه)، قال لى (مابتخاف من الموت؟)، ووصلت الطائرة بمروحة واحدة للخرطوم، بعدها اتصل باللواء محمد طلعت فريد وزير الثقافة، وقال له (الزول ده يكون معاي في القصر)
٭ كم عدد المصورين الذين كانوا معك فى مكتب الاتصال ؟
كنا خمسة مصورين أنا وشوقي إبراهيم أبوعسل وسليمان بخيت، وواحد اسمه عمر ومحمد حسن حكيم
٭ حدثنا عن اللقطة الشهيرة التي أخذتها لعلم الاستقلال عندما رفع ؟
– في ذلك اليوم أتى مصورون كثيرون من عدة دول، ونحن فى المكتب خرجنا كلنا للتصوير، والحدث كان يحتاج (لزول شيطان وقوي)، أول من بدأوا بالحضور حواء الطقطاقة ومعها بنات بالدلوكة، ولحظة دخولنا التقطت صورة للعقيد أحمد مرتضى يعمل في القصر ووراءه كان السيد إسماعيل الأزهري وبجواره محمد أحمد المحجوب، وخلفهم رجال التعليم مثل عبدالرحمن على طه، بعد ذلك العقيد أدى التحية، وبدأ برفع العلم والصورة وزعت فى نفس اليوم
٭ أين يقع ميدان الاستقلال ؟
– غرب القصر وشمال وزارة المالية، شرق الداخلية، وشمالنا البحر وتمثال كتشنر
٭ من هم الرؤساء الذين عملت معهم ؟
– عملت مع عبود والصادق المهدي ونميري ، والصادق لفيت معاه عدد من المناطق منها وضع حجر الأساس لمستشفيات أم كدادة ومليط وكتم وكاس، أما المسؤلون فأبرزهم طلعت فريد صورته وهو يضع حجر اساس مسرح أمدرمان القومي، وفي ذلك الحدث مثل الفاضل سعيد مسرحية «حبوبة فاطمة »
٭ عملك في الاستعلامات من المؤكد أنه مليء بالذكريات، أسرد لنا بعضها أو أهمها؟
– طبعا كان ذلك فى عهد عبود، وكانت هنالك حركة عسكرية أُلقي القبض على قياداتها مثل صلاح الطيار وعبدالبديع، وحاكموهم فى محكمة بحري، ولكن أثناء المحكمة حضر عدد من المصورين من خارج السودان، وخلال الجلسة قطعت الكهرباء وتوقفت المروحة فى السقف، فقال القاضى للحاجب أحضر «قناية » لتحريكها، فلاحظت أن مصوراً مصرياً (أخذ لقطة) للمشهد، فناقشته بشدة داخل المحكمة، فما كان من القاضى إلا أن أبلغ الوزير طلعت فريد وقال له مصورك عمل مشكلة، فاستدعانا الوزير معا، وطلب من واحد اسمه عمر فى قسم التصوير أن يحمض الفيلم، وقال للمصري إذا طلعت الصورة فإنك لن تعد للمحكمة، أما أنا فقد قال لي إذا كذبت سارفدك، وفعلاً ظهرت الصورة فأشاد بي طلعت فريد، وأعطانى شهادة بعد أن قال لى إن هذه فضيحة إذا خرجت
٭ قبل أن أتوجه لسؤال آخر قال عم محمد أما نميري صاحبي فسألته عن سر الصحبة؟
– نميرى قبل مايعمل انقلاب كان صاحبي، أنا مريخابي وهو مريخابي، وجدته فى جوبا بدبورتين، وكان وقتها يعمل فى توريت، وأنا حينها نقلت إلى جوبا التى مكثت بها خمس سنوات ونصف، سارت الصداقة وتم رفت نميرى عندما بدأ فى إنشاء حركة انقلابية منذ أن كان ضابطاً صغيراً، وعندما تسلم الصادق الرئاسة أعاده للخدمة، وطبعاً عمل الإنقلاب واعتقل الصادق المهدي، وفي إحدى زياراته للفاشر التى نقلت إليها قابلته، قال لي: (لسه إنته قدامي) قلت له: (المرة دي أنا بجيب خبرك) فقال لي: (أنا بقيت رئيس دولة)، قلت له: (ما صاحبي ونحن الاتنين مريخاب)، واصطحبنى معه فى كل جولته تلك والتى طاف فيها على عدد من المناطق
٭ هل سافرت خارج السودان ؟
– سافرت لزنجبار ومنبثه بلد أحسن حديقة حيوان فى العالم وجوهانسبيرج
٭ الحوار مع العم محمد لم يكتمل بالمندولة هاوس، وللمعلومات الثرة التى يمتلكها أستاذنا قررت الذهاب له فى منزله بحى كرري بنيالا، وترافقنا أنا وزميلتى إبتسام الشيخ المذيعة باذاعة دارفور اف ام، وكعادة أهل دارفور رحب بنا ترحيباً كبيراً هو وأفراد بيته، ثم اطلعنا على جانب من الصور التى يحتفظ بها والشهادات التقديرية التى منحت له، بعد ذلك بدات فى توجيه الاسئلة اليه من جديد وسالته عن ما إذا كان يحتفظ بكاميرا قديمة أم لا؟
– هب العم من مكانه وبعد برهة أتى يحمل كاميرا عتيقة قال إنها أول كاميرا صحفية وتسمى رولكس ألمانية الصنع، وتابع كل صوري اشتغلتها بها تسلمتها فى العام 1955م وتوقفت عن العمل بها عام 1965م
٭ هل تم تكريمك من قبل أى جهة ؟
ـ نعم تم تكريمي من عدة جهات، ولكنها كلها كانت ورق فقط، ماعدا شركة سودانى كرمتني واعطتني خمسمائة ألف جنيه، (أما الحكومة فضربت بى عرض الحائط)، وفي مرة من المرات قامت حكومة جنوب دارفور بتكريم عبدالرحمن دبكة ومعه منصور عبدالقادر أمير الفور فى كاس، ثم أنا فى احتفال وخلاله تم تسليم الاثنين كل شخص سيارة، أما أنا فأعطوني شهادة ورقة بس، هذه (حاجة تزعل)، لكن الأيام القادمة مسافر فرنسا الفرنسيين أرسلوا لي لتكريمي
٭ نصائح للمصورين ؟
– لازم تختار مكان مناسب لأخذ الصورة، وماتصور الساعة 12 ظ (لانو حيكون فى «شدو» ظل في الرقبة) إلا إذا كان معك فلاش، وماتصور في عربة والكاميرا عندها وزنة عدسة فى الصباح والمساء، برضو لابد من ضبط سرعة السيارة لانو الكاميرا دى ممكن تاخد صورة لطيارة فى الجو وتجيبها ثابتة
٭ في عملكم ده كمصورين هل هنالك مسؤولين كانوا يعطونكم حافزاً على العمل ؟
ـ (مافي زول يدينا حافز على الإطلاق)، أنا داير تقولوا الكلام ده
آخر مكان عملت فيه فى نيالا ونزلت المعاش
٭ مافكرت تعمل معرض خاص بك لعرض هذه الصور النادرة التى تمتلكها ؟
– لا ولكن بنعمل فى كتاب لكل صوري
٭ أول صورة التقطها ؟
اول صورة التقطتها كانت لـ «قرينتية» في حديقة الحيوان، وكان يبدو «عايز قش أخذت القش وداير يدخل فى الموية» فصورتها، الخواجة أعجب بيها إعجاب شديد
٭ تناولت صورة فيها فارسين على فرسين يرفعان أرجلهما الأمامية إلى الأعلى وسالته عنها؟
ـ هذه الصورة فى سرقيلا قرب تلس وفى السودان مافى زول أخد زيها ، كان عندنا مامورية مع وزير الزراعة، أخذوها طلاب جامعة الخرطوم وعرضوها فى المانيا، وأول ما صورتها نزلت فى مجلة لندن وسيتم تكريمى فى أوروبا عنها.
٭ بعدها ناولته صورة لجنود يحملون أمتعتهم بالقرب من قطار، فقال: هؤلاء هم الجنود الانجليز عند جلائهم من السودان، رافقتهم حتى الكدرو، ثم كان ضمن الصور صورة للزعيم الأزهرى يجلس إلى جوار الملكة فكتوريا ملكة بريطانيا خلال زيارتها للسودان وصورة لدبكة من داخل البرلمان وهو يطالب باستقلال السودان.

أجراه: لؤي عبدالرحمن : اخر لحظة