جعفر عباس

فسيفساء الفساد


عندما كنت أعمل في التلفزيون السوداني في عصر البخار الأول، أتانا مدير جديد، وبعد أسابيع قليلة من توليه أعباء منصبه اتخذ قراراً بإنهاء خدمات 130 موظفاً وموظفة في يوم واحد، وكانت نتيجة ذلك الإجراء الذي قد يبدو قاسياً، أن أداء التلفزيون شهد تحسناً ملموساً، فقد كان ذلك الجيش الجرار من الموظفين يرهق ميزانية التلفزيون، وكان بعض من أنهيت خدماتهم يحتل مكاتب، بينما كنا نضطر إلى حفظ أشرطة الفيديو في الحمامات بعد تعطيل المواسير فيها بالنظر إلى ضيق المساحة المخصصة لمكتبة الفيديو، وكانت الغالبية العظمى ممن تم طردهم غير معروفين لدى بقية العاملين في التلفزيون بمعنى أنهم كانوا يتقاضون رواتب من دون أن يؤدوا أي عمل، بل من دون أن تطأ أقدامهم مبنى التلفزيون.
وزير القوى العاملة في دولة شقيقة وشقية أعلن مؤخرا اكتشاف ان هناك 60 ألف مواطن يتقاضون أجوراً من الدولة من دون أن يمارسوا أي عمل، وأن بضعة آلاف منهم لم يبلغوا السن القانونية للعمل، يعني دون سن الـ 18، وآلاف آخرون بلغوا سن التقاعد ولكنهم ظلوا يتقاضون رواتبهم على «داير المليم» – وفوقها بالطبع معاش التقاعد! – وغيرهم يشغل أكثر من وظيفة حكومية (على الورق طبعاً) ويتقاضى أكثر من راتب واحد.
وبعد أن فقد نوري الهالكي (كذا بالهاء) منصبه كرئيس لوزراء العراق ووزير للدفاع والأمن والآثار والمياه الجوفية وشؤون الأوزون قبل نحو سنة، وبعد أن هرب الجنود العراقيون من عدة مدن تعرضت لهجمات داعش لقلة العتاد الحربي وبؤس القيادة، اتضح أن هناك أكثر من 100 ألف جندي وهمي في الجيش العراقي يتقاضون رواتب وبدلات.
وفي معظم الدول العربية والإفريقية، هناك «المتواضعون» الذين يتقاضون رواتب عن وظيفة واحدة فقط (يا عيني) من دون أن تطأ أقدامهم المكاتب التي يفترض أنهم يعملون فيها، وذلك الوزير العربي قال إن عدد العمالة الوهمية تلك 60 ألفاً، وأنا أقول له: فيك الخير، خليها 160 ألفاً، لأنه العدد الأقرب إلى التصديق والواقعية، ولو تم إجراء مسح دقيق في الدول العربية ذات الكثافة السكانية العالية لاتضح أن المستهبلين الذين يتقاضون رواتب بالأوانطة من الحكومات يصل في بعضها إلى أكثر من نصف مليون.
في أواسط ديسمبر من عام 2015 المنقضي اكتشف مراجعو الحسابات أن سلطات إحدى الولايات كانت من السخاء بدرجة أنها كانت تدفع رواتب إلى مئات الموتى، والمفصولين من الخدمة، وبلغ الكرم بتلك السلطات أنها كانت تمنح ساكني القبور علاوات سنوية وترقيات، وبدلات «مهام رسمية».
تذكرت «منسي» صديق الروائي السوداني الطيب صالح، الذي تسبب في ترك الطيب لعمله في إذاعة هنا لندن (بي بي سي)، فقد كان منسي يعمل مدرساً في لندن، ويشغل في الوقت نفسه وظيفة أخرى في قسم آخر في هيئة بي بي سي، ولكنه لم يبلغ الطيب صالح بذلك، فكان يسند إليه بعض الأدوار في الأعمال المسرحية الإذاعية، فيتقاضى نظير ذلك مكافأة كبيرة، علماً أن مكافأة المتعاون من خارج الهيئة أكبر من مكافأة العامل في الهيئة، وحسبت إدارة الإذاعة أن الطيب «تعمد» مجاملة صديقه ومنحه مكافأة لا يستحقها، ولأن الطيب سوداني – وبالتالي رأسه ناشف – فقد رفض أن يدفع عن نفسه تهمة المحاباة، من منطلق اعتقاده أنه لم يكن يجوز لإدارة بي بي سي مجرد إساءة الظن به، وانتهى به الأمر مستقيلاً من العمل بالإذاعة التي كان مرشحاً لتبوء أعلى المناصب فيها.
ولن تقوم لنا قائمة مادامت الأجهزة الحكومية عندنا تدار على أساس خيري: خلق وظائف وهمية وتكديس الموظفين في الدواوين لـ«محاربة البطالة»!!


تعليق واحد