الصادق الرزيقي

الزمخشري يستحق التكريم


> تدهشك مدينة الأبيض مرة أخرى، مثلما تهب السودان مشروعاً جديداً، ومعانٍ تتجاوز الواقع وتمضي تشق طريقها نحو مستقبل جديد. تجد الأبيض هناك عند الضفة الأخرى، تؤسس للسودان نهجاً مختلفاً في قيادة المجتمع لنفسه، وكيف صناعته لآفاق النهضة والاستقرار التي تنبني على رؤية عميقة وفسلسفة بسيطة واضحة وعزم عنيد يقف صلداً أمام عقبات الزمن وشائك التعقيدات التنفيذية والإجرائية التي دائماً ما تحول كل فكرة ناجحة إلى جثة هامدة.. إلا في الأبيض.. ولكن بعيداً عن زهو المدينة ومبادراتها المجتمعية الخلاقة وقيادتها التي ألهمت الناس، ما الذي يفعلونه الآن، هناك وجه آخر للمدينة أشد سطوعاً وأكثر التماعاً في مدار العمل الوطني والمبادرات. ففي حي الوحدة غرب، شهدنا عجباً! وأيقنا لحظتها أن مجتمعنا السوداني بألف خير، ومن ينتمي لشعب مثله لابد له أن يختال ويمشي واثق الخُطى ملكاً..
> رجل بسيط.. لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، ولم تعرف يده رنين الدنانير أو القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، من غمار الناس، حاله كحالهم، وأسرته وبيته لا فرق بينهم وبين غمار الناس، ويعيش في حي عريق من أحياء المدينة المشتهرة ببساطتها ودقة حال كثير من أهلها، هذا الرجل يُنظم منذ أكثر من ثلاثة وثلاثين سنة داخل مدينة الأبيض، احتفالاً بذكرى الاستقلال، يحتشد فيها أهل الحي كلهم كبار السن من يعيشون خريف أعمارهم، والأطفال الصغار والشباب في أعمارهم الغضة والنساء وكل فئات المجتمع، ويقيم سرداقاً ضخماً في الشارع أمام منزله ويتحول الحي كله إلى مهرجان ضخم من الأناشيد والأغنيات الوطنية وأفراح القصيد والمنلوجات والأعمال المسرحية القصيرة والكلمات اللاهبة للحماس وإبداعات الصغار قبل الكبار، ويتم الاحتفال بتنظيم دقيق من شباب الحي وشاباته وأطفاله. والرجل الذي سلخ من عمره ما يقارب الستين عاماً، يقف وسط هذه الجموع بهدوئه وسَمْته المهيب، وملامحه التي تفيض بالبِشر والقناعة والحب الكبير للوطن والتراب، يزرع في القلوب هوى هذا الوطن، ويغرسه في أفئدة الأجيال التي عاصرت احتفالاته التي بدأها أول مرة عام 1978م عندما كان رقيباً بالقوات المسلحة في مدينة ملكال بجنوب السودان يومئذ.. وعندما استقر في مدينته الأبيض وبين أهله في العام 1982م لم يتخلف يوماً عن إقامة هذا الاحتفال الكبير الذي صار معْلماً نورانياً كما الشهاب من معالم المدينة..
> قصته تقول: إن الشاب غض الإهاب (عز الدين بخاري الزمخشري)، كان يهوى الموسيقى والعزف على آلة الكمان في مدينة الأبيض مطلع السنوات السبعين من القرن الماضي، اجتذبته فرقة فنون كردفان، أجاد فن العزف وبرع في الأداء الموسيقي، لكن مع تنامي موهبته أخذته ظروف الحياة للالتحاق بالقوات المسلحة جندياً وضع روحه على كفه وجعلها رخيصة من أجل الوطن، زادته الخدمة العسكرية وما حفظه من مرويات التاريخ وما عرفه من ماضي البلاد وملاحمها البطولية، إيماناً، بأن الوطن أغلى مما نتصوره، وأعز مما نتخيله، ولا ثمن لترابه الذي عفَّرته دماء الشهداء، وهو يعمل في صفوف الجيش (ملكال) في النصف الثاني من السبعينيات، تملَّكته الفكرة بأن يحيي بطريقته الخاصة ذكرى استقلال السودان، فصار ينظم احتفالاً يقوم على الموسيقى والأغاني الوطنية وسرد قصة الاستقلال والاستفادة من الكوادر الموجودة حيذاك في ملكال من عسكريين ومعلمين في تقديم كلمات حول هذه الذكرى العزيزة ومعانيها، وكان السودانيون يومها من كل الاتجاهات والأطياف الاجتماعية والمهنية يحرصون على حضور احتفالاته الخاصة، ومن بين رواد احتفالات تلك الفترة، ملازم أول سلفا كير ميارديت الذي صار بعد ثمانية وثلاثين سنة من تلك الفترة رئيساً لدولة الجنوب ..!
> من ملكال إلى الأبيض، لم يتأخر الاحتفال يوماً، كان يقيمه في يوم 18 يناير من كل عام، ليصادف ذكرى أخرى هي فتح مدينة الأبيض ومعركة شيكان، فيجعل من ذكرى الاستقلال مقرونة بالبطولات الجدية في تاريخنا الوطني، وتحضر الاحتفال جموع هائلة من أهل الحي وأحياء أخرى، وقادة العمل السياسي ورموز المجتمع، يصرف عليه وحده، لا يتلقى دعماً ولا سنداً من حكومة أو أية جهة كانت، من مدخراته ودخله الشخصي لديه ما يشبه (الحصالة) يضع كل يوم فيها مقداراً من المال على طول العام لليوم الموعود يوم الاحتفال، فيدفع من إدخاره ورصيده كلفة الصيوانات وإيجار الكراسي والكشافات الزينة الكهربائية الضيافة بكاملها، أضف إليها ذبح خروف أو اثنين لتخرج الموائد للحضور عند نهاية الحفل. في السنوات الأخيرة، بات أهل الحي يشاركونه، وتتبرع فرقة فنون كردفان وزملائه الموسيقيين بإقامة حفل الغناء والأناشيد، وترى الأطفال الصغار في أزيائهم الفاخرة كأنهم في يوم عيد يقدمون القصائد والأشعار والأناشيد، دون أن يدركهم نعاس أو يلوذون إلى أحضان أماتهم في البرد القارس..
> ما شهدناه في الاحتفال الثالث والثلاثين في الأبيض، حالة وطنية لا مثيل لها، وتجربة وظاهرة حميدة نادرة الحدوث. فمن كانوا أطفالاً قبل ثلاثة وثلاثين معه واحتفلوا مع الزمخشري وجدناهم يشاركونه وهم كبار ومعهم أطفالهم في نفس سنهم السابقة، وبعض من عاصروا الاستقلال تجدهم في الصفوف الأمامية، والشارع أمام المنزل مشتعل بالحديث عن رواد العمل الوطني وأبطال المعركة الطويلة ضد الاستعمار البغيض .. كل الشوارع المؤدية لمكان الاحتفال ملأى بالسيارات والحافلات والقادمين من أحياء أخرى نساء ورجالاً.. أليست هذه صورة مدهشة أخرى للأبيض؟..
> مثل هذا الرجل الوطني الغيور..وهو لا يرجو جزاءً ولا شكوراً ولا دعاية لنفسه، فقط يرغب في غرس هذه الروح في الأطفال والأجيال المختلفة حتى لا يضيع الوطن ويتسرب من بين أياديهم، فيجب أن تكرمه الدولة، وهذه دعوة لرئاسة الجمهورية لتكريمه في عيد الاستقلال من العام المقبل أو في أية مناسبة وطنية كبرى ..