تحقيقات وتقارير

وردي والسياسة … حكايات وصور وألحان نادرة


كثيرا ما فكرت في فتح هذا الملف، سرد قصة وردي الفنان منذ بداياته ووردي والسياسة وعلاقته بها سردها كما سمعتها منه وكما اعرفها وتقديم نماذج لتلك القصص والفترات صور قصاصات وألحان معروفة لعدد كبير من الناس لكنها تكاد تكون معدومة.
في شهر فبراير 1971 زار الرئيس الزائيري موبوتو السودان وقامت جماعات تعارض زيارته واستقباله من قبل النظام بتوزيع منشورات ضد مبدأ الزيارة فبدأ نميري في حل التنظيمات الشيوعية ليعلن في عيد مايو الثاني عن قيام الاتحاد الاشتراكي السوداني واعقبت القرار حركة اعتقالات واسعة طالت رموز الحزب الشيوعي وكان ذلك بسند وتشجيع مصري من الرئيس السادات والذي كان قد قام قبلها بأيام في 15 مايو 1971 بالقضاء على نفوذ ما اسموه بمراكز القوى حيث ازاح الناصريين اليساريين من السلطة فاتبع نميري طريقه واشتعل فتيل المواجهة بين الشيوعيين ونميري ليهرب عبد الخالق من معتقله في 29 يونيو وتزداد حالة الاحتقان وينذر الجو بانفجار قريب، بات وردي في يوليو 1971 في امل وترقب لسقوط وشيك لنميري وتصحيح مطلوب لثورة مايو اليت كان لها داعما بالامس القريب ووجد وردي محجوب شريف يشاركه الامل والترقب كحال اليساريين في تلك الاثناء وبالفعل في نهار يوم الاثنين الموافق 19 يوليو 1971 بدأ تنفيذ انقلاب يوليو والذي سمي من المنفذين بالثورة التصحيحية وقطع التلفزيون ارساله وكذا الاذاعة ليبدأ بث المارشات العسكرية والاعلان عن بيان مرتقب سيذيعه الرائد هاشم العطا بعد تلاوة الرائد هاشم العطا لبيان 19 يوليو واعلان حظر التجول بدأت الاذاعة والتلفزيون في اذاعة برقيات التأييد ولم يتردد وري لحظخ في دعمه لحركة 19 يوليو وفي اليوم الذي يليه انطلقت مسيرات التأييد والرايات الحمراء تلون شوارع الخرطوم،وفي يوم 21 يوليو 1971 قام الاعلامي ذو النون بشرى بتقديم حلقة في الاذاعة عن ندوة استضاف فيها وردي ومحجوب شريف والاستاذ محمد الامين وعبرها اعلن محجوب عن تأييده 19 يوليو وقرأ قصيدته (ما دوامه) وكذا فعل وردي معلنا تأييده 19 يوليو وتقديمه لعمل من كلمات محجوب شريف كان العمل بعنوان (حنتقدم) واعلنا انهما وقفا من قبل مع ماو حتى اخطأت لذا فاليوم يقولا (لا) لمايو ويقفا مع يوليو سيقولان ليوليو لا ان اخطأت يوما وهذا هو نص (حنتقدم)، تسجيل حننتقدم والذي اعدمته مايو ولا يتوفر تسجيل كامل الا واحداً وكل التسجيلات التي ظهرت مؤخرا هي تسجيلات غير مكتملة ولا تبدأ الا حين يغني وردي (سجل) لذا فهذه نسخه نادرة جدا جدا نوشح بها هذا الخميب ونطلق سراحها لأول مرة.
أطل يوم 22 يوليو1971 وحركة يوليو تنتظر وصول قادتها من لندن اقلعت الطائرة من لندن الي الخرطوم وعلى متنها قادة حركة يوليو المقدم بابكر النور والرائد فاروق حمد الله وانطلقت مسيرة عالمية نقابية مؤيدة ليوليو في ظهيرة ذاك اليوم، انطلقت تجوب شوارع الخرطوم وكان من المقرر ان يخاطبها هاشم العطا الا ان مسيرة اخرى مؤيدة لمايو انطلقت كذلك في نفس التوقيت بعد ذلك دوت اصوات الرصاص لتشاء الاقدار ان تكون عودة مايو للسلطة نهارية مثلما اتت يوليو فر نميري من الحبس وأجبرت السلطات الليبية الطائرة على الهبوط في ليبيا والنزال قادة يوليو منها ومن ثم تسليمهم لاحقا لسلطة مايو وجدت مايو الدعم من مصر وليبيا لتكتب بذلك اقصر نظام يستلم مقاليد السلطة في السودان وتعود مايو للسلطة بدأ اليوم بيوليو وانتهى بعدوة مايو.
عادت مايو للسلطة وبدأت فوراً في اعتقال قادة يوليو وكل من قام بتأييد يوليو وبالطبع المنتمين للحزب الشيوعي وقبيلة الاشتراكيين واليساريين واقتيد وردي لسجن كوبر يرافقه محجوب شريف وذو النون بشرى وبدأت محاكمات الشجرة المعروفة ومباشرة تم اعدام قادة واعضاء حركة يوليو وكذلك اعدام قادة الحزب الشيوعي فاعدم هاشم، بابكر، فاروق، الشفيع، جوزيف وعبد الخالق، وبقي وردي وزملاء سجن كوبر بقوا في السجن بلا محاكمات وخلف الاسوار لم يتوقف شلال الحان وردي ولا سيل اشعار محجوب فكتب محجوب وغنى وردي بدءاً لعبد الخالق أغنية (عريس الحمى):
عريس الحمى
المجرتق بالرصاص
المحنن بالدماء
ظل وردي في سجن كوبر محاولا الاستفادة من المعتقل خصوصا وانهم كانوا ممنوعين من الحصول على الاقلام والاوراق او الصحف اليومية ولم تكن تتوفر غير بعض الكتب والقواميس، ظل وردي يطالب بعوده بلا كلل او ملل دون ان يستجيبوا له وقد قال: انه استفاد جدا من مزاملته لعظماء مفكرين وعلماء كتاب وادباء شعراء ومطربين صحفيين واعلاميين وقد كان يحاول الاستفادة من مقدرته على الحفظ بتقوية لغته الانجليزية وحفظ 150 كلمة جديدة في اليوم صباحا 75 كلمة ومثلها مساءً واستمر في الغناء والتلحين بلا عود او قلم وورقة فغنى لمحجوب شريف (الحب والثورة) والتي تول كلماتها:
مشتاق ليك كتير والله
وللجيران وللحلة
كمان قطر النضال ولّى
وغالي على اتدلى
محطة محطة بتذكر
عيونك ونحن في المنفى
وتذكر مناديلك
خيوطها الحمراء ما صُدفة
وبتذكر سؤالك لي
متين جرح البلد يشفى
ومتين تضحك سماء الخرطوم حبيبتنا
ومتين تصفى
سؤالك كان بيعذبنا ويقربنا
ويزيد ما بيننا من إلفة
وللاغنية حكاية بعد خروج وردي من المعتقل
لؤي شمت – صحيفة حكايات
عبقرية الفرعون
ابتدر الحديث الفنان البروفيسور د.عثمان مصطفى بكلية الموسيقى والدراما بجامعة السودان فكشف ان سبب خلود اغنيات الراحل المقيم وردي وتداولها حتى اليوم وستظل هكذا بين الناس ترجع اولا لاختياره كلمات رصينه معبرة عن المجتمع السوداني بثقافاته المختلفة بالاضافة للالحان الجميلة غير المكررة فكل لحن عنده طعم ولون خاص فوق كل ذلك الشيء الثاني صوته الذي يدهش كل من يسمعه، وقال د.عثمان (السبب الثالث قد يتفق معه كل اهل الفن والموسيقى ان الحانه غير عادية تحمل كل مضامين التعبير الموسيقى والطرب الاصيل وتدل ان هناك قدرة او موهبة غير عادية تقوم بتأليف وانتاج الالحان بالرغم من ان وردي بدأ التلحين بالفطرة فقد كان تأليفه يفوق حتى الذين يعرفون الموسيقى)، ابان انه يتذكر انهم في الماضي عند دخولهم كطلاب معهد الموسيقى والمسرح والذي تحول الي كلية الموسيقى والدراما كان الاساتذة الكوريين مندهشين ويقولون (كيف لانسان لم يدرس الموسيقى يقوم بتأليف الحان لاغنيات تكون بهذا العطاء والابداع الفني الفريد)،و لهذا السبب قام الكوريين بتناول عدد كبير من اغنياته بالتوزيع الاوركسترا والصوتي وكانوا يعتبرون وردي عارفا عالما بكل علوم الموسيقى، وأشار د.عثمان في ختام حديثه الي ان الفنان الراحل محمد وردي يعتبر امتدادا للفنان الراحل خليل فرح وامتدادا للعباقرة سرور وكرومة وكنا نتوقع منه الكثيري للفن السوداني لانه ظل حتى اخر حياته يعطي ويقدم في الجديد ولكن شاءت ارادة الله ان يفارق دنيانا بجسده ويفجع السودانيين برحيله ولكنه سيظل خالدا بيننا باغنياته الخالدة التي سترددها الاجيال.
الموسيقار د.الفاتح حسين قال: “البيئة والثقافة النوبية التي كونت وشكلت الفنان وردي لم يتخل عنها حتى في شكل الحانه يحس المستمع فيها بالنغمة النوبية او الحس النوبي سواء في شكل الايقاع او التأليف وأبان ان وردي من الفنانين القلائل مثل الموسيقار محمد الامين حيث رسخ في وجدن الشعب السوداني بالغناء الوطني اكثر من الغناء العاطفي خصوصا في بدايتهما الفنية، وهذا من اسباب نجاحهما واستمرارهما لربط فنهما بمعاناة الشعب، ولذلك نجد ان الأناشيد الوطنية من اقوى الاعمال التي انغرست في قلوب السودانيين مثل اغنية الخالدة (أصبح الصبح) التي يحفظها أي طفل وستظل محفورة في الذاكرة وارجع تميزه في تقديم لونية الغناء الوطني لوطنيته وحبه وولعه الزائد عن حده ببلاده”.
وأكد الفنان محمد الامين ان الموسيقار الراحل محمد وردي صاحب بصمة غنائية فريدة ولونية خاصة ميزته تماما عن غيره سواء كفنان او ملحن في الساحة الفنية السودانية وقال: “وردي اكتسب ذلك التفرد والنبوغ من خلال كونه فناناً مناضلاً عشق واحب وطنه بكل صدق وتجرد ونكران ذات”، واستشهد بتصدي وردي منذ ان كان طالبا لكل القضايا الإنسانية وتكريس كل وقته وماله وجهوده وفنه في محاولة معالجة مشاكل وهموم ابناء منطقته.
كشف الموسيقار د.أنس العاقب ان خلود وردي الغنائي مثل عصارة تاريخ السودان منذ ممالك النوبية الوثنية –المسيحية- وحتى الاسلامية وهذا الارث الحضاري اندفع في شرايينه وغذاه فضخ كل هذه الدماء الفنية والخصائص الموسيقية المتفردة فاستطاع ان يمثل كل هذا النبض الموسيقي للشمال والوسط واكتسب ثقافات جميع اجزاء البلاد من الشرق والغرب والشمال وحتى الجنوب وقال: “أغنيات وردي فريدة وقريبة للقلب موسيقى خماسية صنع منها فرادة ودهشة والجمل الموسيقية ممتدة ومتغيرة ومتلاحقة مع قدرة وبراعة تفوق الوصف وتتجاوز التعبير على التوزيع وفهم خصائص الالات الموسيقية، واضاف ان الامبراطور قدم في مسيرته الفنية الذاخرة انماطا كثيرةمنها اللونية العاطفية التي ميزتها المقدمة الموسيقية الطويلة (مشروع سيمفوني) مثل اغنياته (الحزن القديم، بناديها) وحفلت كل اغنياته بالايقاعات الراقصة التي نجح في ادخال كل الإيقاعات السودانية اليها.
واشار د.أنس الي ان صوت وردي كان (صوت تينور صادح) امتلك قدرة على الانتقال، صريح ومقنع نفساني، لم يوجد عند 90% من الفنانين السودانيين عدا الذري ابراهيم عوض وعبد العزيز محمد داؤود وصوته كان صوتا ضاربا في حضارات قديمة صوت تاريخ عمره سبعة آلاف سنة من الحضارات وأبان ان ما لا يعرفه الناس ان وردي يعد من أشهر الشعراء الذين كتبوا الشعر النوبي وبرع في تقديم كل ما غناه من اغنيات وطنية وعاطفية وحتى المديح تناوله في الفترة الاخيرة من حياته، وقال د.أنس (خلاصة الحديث السلم الخماسي لا يزال ينتحب برحيل الأمبراطور محمد عثمان وردي).

عمار عبد الله
صحيفة حكايات