ضياء الدين بلال

هيكل رحل بأخطائه!


في كتابه «كلام في السياسة» كان الأستاذ محمد حسنين هيكل يكتب عن الدكتور بطرس غالي بقسوة موجعة تجاوزت النقد للتجريح. بفارق يوم واحد غادر الرجلان الدنيا الفانية إلى الدار الباقية، الأول عن عمر امتد لـ93 عاماً والثاني تجاوزه بعام 94.

أذكر تماماً في بداياتي الصحفية كنت مولعاً بقراءة كتب الأستاذ محمد حسنين هيكل من خريف الغضب إلى كلام في السياسة.

أكثر ما كان يشدني لكتابات هيكل أسلوبه البارع في تحرير الأفكار وصياغة آرائه عبر جمل قصيرة ومباشرة خالية من الغموض والتعقيد على طريقة السهل الممتنع.

كان مصدر دهشتي وإعجابي ذخيرة المعلومات التي توافرت لديه لدعم تحليلاته وهي متعددة المصادر بعضها معروف وكثيرها خفي ومستتر.

ومما لا شك فيه أن هيكل يعتبر الكاتب الصحفي الأبرز في الشرق الأوسط والمنطقة العربية منذ خمسينيات القرن الماضي إلى وفاته قبل أيام.

ظل هيكل يحتفظ لنفسه بعدة أوصاف مثل «كاتب السلطة» و«صديق الحكام» و«صانع الرؤساء» و«مؤرخ تاريخ مصر الحديث» والأقرب للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.

أصدقكم القول بدأت ريبتي في معلومات هيكل وما ينتج منها من تحليلات بعد قراءتي لكتاب (من نيويورك إلى كابول).

وهو كتاب تناول بالتحليل الاعتداء على برجي التجارة بنيويورك ومباني البنتاغون حيث ذهب هيكل بالتحليل في اتجاه غريب وشاطح.

هيكل أورد معلومات من مصادره المجهولة أن من قاموا بترتيب الاعتداء ليسوا أفراد تنظيم القاعدة ولكن ضباط بالجيش الصربي.

لم تمضِ فترة طويلة على صدور الكتاب إذ سرعان ما ثبتت نسبة الحادث لتنظيم القاعدة دون وجود أي أصابع صربية!

ظللت في حيرة من أمري قلت لماذا اختار هيكل أن يورط مصداقيته في تحليل جزافي لا يقوم على منطق ولا يستند لمعطيات ذات وجاهة.

أما المرة الثانية التي فاجأني فيها هيكل بمعلومات غير صحيحة فهي حينما سجل إفادة تليفزيونية.

حيث ذكر أن الإمام الهادي المهدي إمام الأنصار في السودان قتل بمنقة مسمومة عندما خرج من معقله بالجزيرة أبا تحت القصف المايوي متجهاً نحو الشرق.

وأن الطيران المصري لم يشارك في تلك العملية، نزولاً لتحليل وقراءة قدمها هيكل لعبد الناصر وقتها جعلت الأخير يمسك عن قرار المشاركة في الدقائق الأخيرة ويضع رجله على الفرامل.

رواية أن الإمام الهادي مات مسموماً بمنقة ملغومة كانت بمثابة الضربة القاضية لمصداقية هيكل في الأوساط السودانية إذ الثابت عبر كثير من الشواهد والإفادات أن الرجل مات مقتولاً بطلق ناري (بالكرمك)، وليس بمنقة (كسلاوية) ملغومة انفجرت داخل معدته..!

بالقطع قد لا يكون الأستاذ محمد حسنين هيكل يدرك أن السودانيين لا يغتالون خصومهم عبر السموم المدسوسة!

لذا، كان عليه ألا يلقي بمثل هذه المعلومة دون حيثيات ومؤكدات قاطعة. لا سيما وأن الجدل كان لم ينفض بعد من قوله السابق- في ذات البرنامج- أن عبدالناصر كذلك مات مسموماً!

أما الصدمة الثالثة بالنسبة لي وربما لكثيرين غيري حدثت عقب الثورة على الرئيس المصري محمد حسني مبارك حيث ذكر هيكل في واحدة من إفاداته الإعلامية أن أسرة مبارك تملك 70 مليار دولار في بنوك أجنبية وحينما تم استدعاؤه في لجان التحقيق لم يستطع إثبات ذلك ولا ببينة ضعيفة.

قناعتي أن الأستاذ محمد حسنين هيكل استطاع أن يؤسس للثقة في كتاباته في فترة نشاطه الحيوي حينما كان قريباً من دوائر صنع القرار ومتعدد المصادر ولكن في السنوات الأخيرة انقطع عن تلك الدوائر المعلوماتية وبات قليل الدقة وضعيف الضبط في التعامل مع المعلومات يختلط عليه سليمها مع سقيمها ولا يكاد يميز بينهما.

رحم الله الفقيد محمد حسنين هيكل وجزاه خيرًا على ما قدم وغفر له ما اقترف من أخطاء.