عبد الجليل سليمان

اقتصاد الخوارج


يبقى من الصعب أن نأخذ أقوال وزير الماليَّة، بدر الدِين محمود، في ما يتعلق بخطط اقتصادية وتنمويَّة مُنجزة من قبل القطاع الاقتصادي الحكومي، مأخذ الجد، إذ أن (مخرجات) هذا القطاع (نتائج سياساته) تشي بالطريقة التي يُدار بها، وبالعقليات التي تتولى الأمر، وبمدى قدرتها وجديتها وكفاءاتها ورغبتها في التقدم خطوات إلى الأمام. لذلك حين يأتي الوزير بدر الدين، ليكشف اكتمال خطة (وطنيّة) كما سمّاها، وقال عنها: إنها حددت القدرات الزراعية وكيفية استغلالها – وفق دراسة علمية – لتحقيق مبادرة الأمن الغذائي العربي، وأوغل (بدر الدين) واستغرق في الأمر حين طالب خلال مخاطبته لورشة الآفاق المستقبلية لفرص الاستثمار الزراعي في أفريقيا التي التأمت أول أمس، “بجذب الموارد لتحريك القدرات الزراعية، مبشرًا بترتيبات تهدف إلى خروج (الدولة) نهائيًا من النشاط الزراعي”.
بطبيعة الحال، فإن أقوال الوزير – كأقوال محِضة – لا غبار عليها ولا (تُراب)، لكنها ستظل كذلك محض (كلامات) معلقة في الهواء، ولن تتحقق ما لم تُنجز شروط تحققها بداية، خاصة وأن الوزير يتحدث عن خروج الدولة من الاستثمار الزراعي، وكأنها ( داخله) الآن، وهذه ليست الحقيقة.
ليس وزير المالية وحده، بل جل أعضاء الطاقم التنفيذي في الحكومة ظلوا يرددون بوعي أو بدونه، كلمة (خروج الدولة)، بل ويحتفون بها أيما احتفاء، فتسمع أحدهم يبشر بخروجها عن الصحة، وثانياً عن الطاقة، وثالثاً عن الماء، ورابعاً عن التعليم والزراعة وإلى آخر القطاعات الاقتصادية والخدمية.
والحال ماضٍ إلى هذا الخروج الكبير، يلزمنا أن ننوه، إلى أن ذلك (الخروج المزمع) يتطلب من الحكومة المسماة في الخطاب الرسمي بالدولة، يتطلب منها أشغالًا كثيرة – دون التنظير – أولها بسط نظام سياسي ديمقراطي تعددي، ليبرالي تداولي، لجهة أن اقتصاد السوق لا يعمل أبدًا في ظل أي نظام آخر غير المشار إليه، وهذا ما يجب أن يكون مستقرًا في الذهن الحكومي، بجانب أن خروج الحكومة لا يعني تخليها عن دورها، فهذا لم تقل به حتى نظريات (اقتصاد السوق) نفسها، إذ أنه لن يعمل في فراغ ولابد له من وجود حكومة، مثل شبكة من اللوائح والقوانين، وإمكانية تنفيذها وتفعليها خاصة تلك التشريعات الخاصة بالنواحي المالية والتجارية والإدارية، علاوة على أن (الخروج الحكومي) وتحرير الاقتصاد برتبط أيضًا بإزالة جميع المعوقات الجمركية والتشريعية والإدارية التي تعوق انسياب التجارة الداخلية والخارجية ضمن المنظومة العالمية، فهل حكومتنا التي تعتمد الضرائب المزدوجة (ضريبة وزكاة وجبابات ورسوم) قادرة على ذلك؟ لا أظن.
أكثر من ذلك، فإنني أراها – أي الحكومة – عاجزة حتى عن ترك السوق تتصرف طبقاً لقواعد العرض والطلب دون تدخل منها، لأنها لو فعلت ذلك، فهذا معناها تقلص دورها بحيث يكون دورها إشرافياً فحسب، وهذا ما لا تقوى عليه أي حكومة تدير دولة خارج المساقات والأطر الديمقراطية. لكن دعونا من ذلك كله، فالواقع يقول إن تحرير الاقتصاد (وخروج) الحكومة عن أنشطته، يستلزم أولاً محاربة الفساد، إذ أنه في ظل استشرائه وتمدده وإحكامه قبضته على الأوجه الإدراية والتنفيذية كافة فإنه بالضرورة ومهما توفرت الدولة على موارد طبيعية ضخمة، فإنها ستظل فقيرة بسبب عدم رغبة المستثمرين الأجانب أو المحليين في المخاطرة باستثماراتهم من أجل تطوير الموارد الطبيعية إلى منتجات تؤدي للرفاهية وتحسين الحياة المعيشية للمواطنين وخلق فرص عمل.
ولأن ذلك كذلك، فها نحن نرى خروج كبير للمستثمرين بجانب خروج الدولة المزمع.. فهل نحن في زمن يمكن تسميته بزمن اقتصاد (الخوارج)، بمعنى الخارجين؟