رأي ومقالات

الطيب صالح : عجائب منسي


لو أن قامة منسي كانت أقصر ببوصة واحدة أو بوصتين، لأصبح قزماً. ومع تقدم السن، ترهل جسمه وصار له كرش كبير، ومؤخرة بارزة، فكأنك تنظر إلى كرة شقّت نصفين، نصف أعلى ونصف اسفل. وكان شديد العناية بمظهره، يلبس قمصان الحرير، والـ»بدل» الفاخرة، يحصل عليها بأثمان بخسة. كان بادئ الأمر يفصل ثيابه عند «ترزي» في نواحي هولبورن، وكان هذا يحصل على القماش بسعر الجملة من محلات دورميي المعروفة في بيكاديللي. وذات يوم انشغل فتطوع منسي ليحضر له القماش، فأعطاه الرجل بطاقته، واستغل منسي الفرصة فسجل اسمه عند دورميي على أنه «ترزي» وحصل على بطاقة، وأصبح بعد ذلك يحصل على القماش بسعر الجملة بهذه الصفة. وأشهد أن منسي كان كريماً معنا، فكنا نذهب معه إلى دورميي ونشتري ما يلزمنا بسعر الجملة. كذلك اكتشف منسي بقدرته الخارقة على الاكتشاف، ترزياً ماهراً في منطقة الـ»إيست إند» الفقيرة، يتقاضى ربع الأسعار التي يتقاضاها الترزية في وسط لندن، فأصبح يفصل ثيابه عنده. حتى بعد أن هاجر إلى أمريكا وفتح الله عليه هناك، كان يحضر خصيصاً إلى لندن، فيشتري القماش من دورميي ويفصله عند صاحبه ذاك في الـ»إيست إند». كان يقتني البدل والقمصان بالعشرات دفعة واحدة. ولا بد أنه ترك كميات كبيرة منها بعد موته. لن يستفيد منها أحد لسوء الحظ، لأنني أشك في أن يكون في كل هذا العالم الطويل العريض، شخص واحد مثل منسي.
ومع ذلك لم يعدم طوال حياته نساء يحببنه، بعضهن كنّ جميلات جمالاً بيّناً، فارعات، تراه يختال إلى جانب الواحدة منهن، فكأنّ نخلة إلى جانب شجرة الدوم. كان وجهه صبيحاً يميل إلى الاستدارة تزحمه عينان واسعتان وقحتان يركزهما على محدثه طول الوقت، دون أن يطرف له جفن. وكانت تلك حيلة نعرفها عنه، فكنا نعابثه بوسائل شتى، وكان سريع الضحك، فلا يلبث وجهه أن يتكشر بضحك طفولي. هذا مع سرعة بديهة وتملّك تام لناصية اللغة الإنجليزية، وقدرة عجيبة في الذهاب بها كل مذهب. وكان جريئاً، يقتحم الناس اقتحاماً، ويرفع الكلفة فوراً كأنه يعرف الشخص من زمن، وكأن هذا الشخص مهما علا شأنه دونه مرتبة.
رافقني إلى حفل تخرجي من الجامعة، فقابل لأول مرة سفيراً عربياً وزوجته، وكانا من أسرة حاكمة. انشغلت عنه فترة ولما عدت غليه، وجدته قد أوقف الرجل وزوجته، ووقف هو بينهما، يضرب الرجل على كتفه مرة، ويضرب السيدة على كتفها مرة، ويقول وهو يقهقه بالضحك:
«آه. اتكلموا كمان، والله لهجتكم ظريفة جداً».
جررته عنهما، وقلت له: «أنت مجنون؟ ألا تعرف هؤلاء؟».
«حيكونوا مين يعني؟»
ولما أفهمته، قال: «وإيه يعني؟».
كانت الوقاحة تنفعه أحياناً، وتضره أحياناً، ولكنها كانت تسعفه مع النساء في الغالب.
حكى لنا أوائل معرفتنا به أنه أحب فتاة في ليفربول حباً ملك عليه نفسه، وقد خطبها وحدّدا موعد الزواج. ولكنها ماتت موتاً مأساوياً في حادث سيارة. قال إنها كانت حبه الأول والأخير، وأنه لن يتزوج بعدها، وسوف يظل وفياً لذكراها إلى الأبد. كانت طريقته عجيبة في الحزن، يقول لك إنه حزين، ولكن لا تبدو عليه أية علامات للحزن. لم يمض وقت طويل حين جاء يخبرنا أنه قد تزوج. دهشنا دهشة عظيمة، ثم تأكدنا أنه قد تزوج بالفعل فتاة من أسرة إنجليزية عريقة تنحدر من سلالة سير توماس مور. بعضنا كان يعرف من هو توماس مور. والذين لم يسمعوا به من قبل أعطوا منسي الفرصة ليتباهى أمامنا جميعاً، فشرح للذين يعرفون والذين لا يعرفون من هو سير توماس مور بلغة إنجليزية متقعرة، وكأننا في فصل دراسي.
في مثل هذه المواقف يكون منسي في أحسن حالاته. يستعرض إجادته للغة الإنجليزية، ودقة معرفته بتاريخ الإنجليز. وها هو الآن يجد سبباً إضافياً أنه هو شخصياً قد أصبح جزءاً من تاريخ الإنجليز. وازداد عجبنا حين علمنا أن «العروس» بالإضافة لكل هذا، فهي أيضاً عازفة بيانو موهوبة تزداد شهرة يوماً بعد يوم، وتقيم حفلات «كونسيرت» في قاعة وجمور الشهيرة.
ويقول له عبد الرحيم: «وإيه اللي رمى ست محترمة زي دي على واحد بغل زيك؟».
حكى لنا أنه تعرف بها في اجتماع لنادي «شباب حزب المحافظين» على أثر مناظرة حامية تصدى فيها منسي لرئيس وزراء بريطانيا آنذاك، سير أنتوني إيدن. وسوف نرى فيما بعد كيف أن منسي قاد مناظرة عن قضية فلسطين، وهو لا يعرف كثيراً عن قضية فلسطين، في مواجهة مع أحد جهابذة السياسة في بريطانيا، وخرج منتصراً. يقول منسي إنه كان رائعاً في تلك الليلة وهو يوجه الضربات لسير أنتوني إيدن، ذلك الديبلوماسي المحنك والسياسي العتيق. دافع عن تأميم مصر لقناة السويس وهاجم سياسة حكومة سير أنتوني إيدن العدوانية نحو مصر. بعد الاجتماع جاءته تلك الفتاة الطيبة وأعربت له عن إعجابها بشجاعته وقوة دفاعه عن بلده، ودعته إلى دارها وعرّفته بأهلها. يقول منسي إنه قرر في تلك الليلة أن يتزوجها.
وهكذا تحول منسي بين عشية وضحاها من حال إلى حال. انتقل من غرفته البسيطة في حي فولهام إلى دار من طابقين في شارع سدني الشهير، في حي تشلسي العريق. كانت ماري تعيش هي ووالدتها وحدهما فقد كان أخوها وأختها متزوجين. وسرعان ما أصبح منسي سيداً مطلق السلطان في تلك الدار الإنجليزية المحافظة. كانت حماته التي تربت على أيدي مربيات فرنسيات، وتتحدث اللغة الإنجليزية بلكنة فرنسية، تعيش في الطابق الأرضي، فاستولى هو على الطابق العلوي. كنت تراه متى زرته يجري طالعاً نازلاً آمراً ناهياً. قلب تلك الدار رأساً على عقب. وسرعان ما أخذت الدار تمتليء بأصناف من البشر لم تخطر على بال أجداد ماري النبلاء الراقدين في مضاجعهم الدارسة في أطراف إنجلترا. يفتح منسي لك الباب، فتهجم عليك روائح الملوخية والكمونية والكوارع والمسقعة، روائح تتلوى منها دون شك أمعاء أولئك الأسلاف في مراقدهم النائية.
عن «منسي: إنسان نادر على طريقته»، 2004
قلب الظلام السوداني
في توصيف شخصية منسي، يقول الروائي السوداني الكبير (1929 ـ 2009): «رجل قطع رحلة الحياة القصيرة وثباً وشغل مساحة أكبر مما كان متاحاً له، وأحدث في حدود العالم الذي تحرك فيه ضوضاء عظيمة. حمل عدة أسماء، أحمد منسي يوسف، ومنسي يوسف بسطاوروس، ومايكل جوزف. ومثَّل على مسرح الحياة عدة أدوار، حمالاً وممرضاً ومدرساً وممثلاً ومترجماً وكاتباً وأستاذاً جامعياً ورجل أعمال ومهرجاً». وقارئ صالح يحار، حقاً، في الجزم حول هوية منسي هذا: أهو شخص واقعي حقيقي، أم شخصية روائية متخيَّلة، أم مزيج عجيب منهما معاً؟ الأكيد، مع ذلك، أنّ قدرة صالح الفائقة في رسم ملامح البشر، على مسرح الحياة كما في الرواية، تتجلى بقوّة في عناصر هذا المزيج.
وكانت «موسم الهجرة إلى الشمال» 1966، رواية صالح الأشهر، قد ظهرت أولاً في مجلة «حوار»، ثمّ صدرت لاحقاً عن دار العودة؛ وسرعان ما اكتشف العالم العربي ـ ثمّ العالم بأسره بعدئذ، في الواقع ـ روائياً مدهشاً، متمرساً في فنون السرد وتركيب الحكاية، بارعاً في المزج بين اللغة الحسية الحارة والمجازات التصويرية الطليقة؛ وقابضاً على، ومتمكناً تماماً من، المناخات الاجتماعية والنفسية والطبيعية التي تحيا فيها شخصياته، سواء أكانت محلية سودانية، أم نقائضها الموازية في بريطانيا. الرواية تسير على لسان شابّ يعود إلى قريته السودانية، الواقعة على ضفاف النيل، بعد سبع سنوات من الإقامة في أوروبا يقصد الدراسة؛ وملامح شخصيته تجمع بين مارلو، في رواية جوزيف كونراد «قلب الظلام»، وعناصر من سيرة صالح نفسه.
وهذا الراوي يحكي، بأسلوب الرواية ضمن الرواية، قصة الشاب السوداني مصطفى سعيد، الذي درس في لندن، وأقام فيها طيلة 30 سنة، فأصبح اقتصادياً مرموقاً، وزير نساء أيضاً، قبل أن يقرر العودة إلى قريته مسقط رأسه، في السودان. مواجهات عارمة بين «الغرب» و«الشرق»، على النحو الذي انكبّ إدوارد سعيد على تفكيكه ببراعة وعمق في كتابه «الاستشراق»؛ إلى جانب الإشكاليات التي تكتنف ثنائيات مثل القرية والمدينة، والمنفى والوطن، والحاضر والماضي… ولسوف يتعاقب صدور أعمال صالح، ويُعاد طبع القديم منها، على خلفية احتفاء واســع وعريض من شرائح القراءة العربية، كافة تقريباً: «عرس الزين»، «ضوّ البيت»، أو «بندر شاه»، «دومة ود حامد»، «مريود»، «نخـــلة على الجـــدول»؛ فضلاً عن عشــرات المقالات، التي جُمعت بعدئذ في تسعة كتب.
الطيب صالح