مقالات متنوعة

خالد حسن كسلا : «سد كجبار» من أجل اللغة النوبية


> «أردوان» في الولاية الشمالية التي كانت جزيرة الآن أصبحت شبه جزيرة.. أصبحت «شبه جزيرة أردوان».. فأحد رافدي النيل هناك قد جف، وسيضطر أهل الضفتين لنقل النشاط الزراعي إلى مكان آخر.. أو تركه.
> وكان بعض أهالي المناطق هناك يتركون ديارهم في جزر «بجبوج» و«سدلي» و«شيبان» وغيرها ويتجهون إلى توتي وبري وكترانج وجنوب السروراب «النوبة».. وذلك لأن هدام النيل كان يغمر أراضي السكن والزراعة بأكملها.
> فلا سدود وقتها في الرصيرص وسنار وجبل أولياء ولا ترع للتنفيس.. فقد هجر المحس سكناهم وزروعهم وضروعهم و«آثارهم» إلى غير رجعة.. وضاعت من ألسنتهم اللغة النوبية.. ولن يعيدها إليهم معهد اللغة النوبية بالنادي النوبي.
> الآن هجرة الديار بسبب عكسي.. بقلة مياه النيل. فقد أصبحت جزيرة «أردوان» الرائعة «شبه جزيرة أردوان». لقد وجبت إقامة السد لعودة الجزيرة كما كانت.. وعودة ري الجروف.. وعودة حفدة المهاجرين.
> والسودان مقبل على قضية مياه طبعاً ستعقدها زيادة الكثافة السكانية مستقبلاً.. تتطلب من الآن إحكام إدارة مشروعات المياه بإقامة مزيد من السدود.
> والحاجة إلى مزيد من السدود لو هي منعدمة الآن فإن الجيل القادم سيشعر بها وسيصعب عليه حل المشكلة حينما لن يجد الفرصة التي تتوافر الآن من دول الخليج مثلاً.
> وفرصة مصاحبة لذلك هي نقل المشروعات الزراعية من بعض دول الإقليم الغنية إلى السودان، يمكن أن يعود بعدها مستقبلاً، المغتربون هناك من أبناء كجبار ودال والمناطق المجاورة.
> وهذا طبعاً أفضل من أن تستمر موجات الاغتراب جيلاً بعد جيل من أرض فيها ما يغني عن الهجرة المذلة منها. وحتى الهجرات في الداخل بسبب عدم استغلال الموارد المهمة مثل مياه النيل لها تبعاتها.
> والنوبيون حينما يغادرون مناطقهم وهي أحب البلدان إليهم ويتركونها على مضض.. حتى لو كان ذلك في مواسم الهجرة إلى الجنوب إلى الخرطوم ومدني والمناقل.. فهم لا يغادرون فقط البيوت المحشوة بدفء الأهل والعشيرة، بل يغادرون اللغة النوبية اللذيذة على اللسان مثل طعم عجوة المحس المشهورة.
> ويغادرون الميراث الحضاري ــ «وكلمة التراث خطأ» ــ بدلاً من أن يأتوا به إلى المتحف القومي ليوضع إلى جانب ما أوتي به من وادي حلفا بعد أن فشلت حكومة عبود في إلزام مصر عبدالناصر بدفع التعويضات المجزية إلى النوبة في الجزء السوداني من أرضهم الممتدة إلى أسوان.
> لكن تعويض المتضررين من بناء سدود كجبار ودال والشريك سيتمتعون بشكلين من التعويض.. تعويض جبر الضرر المستحق بجدارة طبعاً، والتعويض عن الهجرة للأجيال القادمة من أرض الجدود.
> وإضافة إلى التعويضين إقامة المتحف.. متحف الحضارة النوبية في ذاك الإقليم الذي قامت فيه أول مدينة في العالم.. هي مدينة كرمة. لكن إعلامنا البائس الفقير يحرم إقليم المدينة التاريخية وكل الوطن من عائدات السياحة لأنه لم يهتف بحقيقة أن كرمة أقدم مدينة في التاريخ.
> لكن «كرمة» ما جعلها تنحسر إلى حجم قرية فقيرة يهاجر منها أهلها عبر الأزمنة، هو فقرها المستمر بعدم استغلال أهم الموارد. فهم يتركون خلفهم مصادر الأموال الطائلة مثل المياه والذهب وحتى العجوة التي نستورد مثلها من بلدان الصحراء.
> لكن السدود تعني بالفعل كما غنى ابن النوبة ونقول «الموسوي المحمدي».. وليس «الفرعون» المعذب في قبره.. كما غنى محمد وردي:
حدق العيون ليك يا وطن..
أصبح مقر وأصبح سكن..
> والوطن الكبير هو السودان الذي يهاجر فيه أهل السودان ينعمون بمنتوجات موارده.. زراعة وطاقة كهربائية وتجارة.
> فمكان السدود المشيدة وحقول النفط ومصانع السكر وبعض الطرق هي أمكنة لأهالي.. قالوا: حدق العيون ليك يا وطن.
> والآن، لماذا يقعد بعض الناس على بعض الموارد يحرمون منها أنفسهم وأبناء الوطن ويتمتعون بموارد أخرى من أماكن أخرى لم يستمر فيها أهلها؟!
> والآن حينما نجد قرية فيها بيتاً واحداً وهي ضمن «23» قرية ستتضرر، يمكن أن نفهم أن انحسار أقدم مدينة في التاريخ إلى قرية استمر بعدم استغلال الموارد لتنحسر القرية إلى بيت واحد.
> ومن يريد أن يتآمر على اللغة النوبية لتُزال ويصبح النوبيون بلا لغة، فهو من يريد هجرتهم إلى مجتمعات ليست نوبية بسبب عدم استغلال الموارد.
غدا نلتقي بإذن الله.