مقالات متنوعة

منى عبد الفتاح : النأي بالنفس.. ممن؟


لم يكن ليظهر هذا التعبير الذي مكن لبنان في فراغها الدستوري العريض من انتهاج مبدأ التخاذل وشق صف توحدت عليه الأمة، بالإضافة إلى أنها لم تبذل وفاء أو عرفانا للأيادي السعودية والخليجية البيضاء، لولا سياسة الحزم التي انتهجها الملك سلمان بأن وضع كل الأمور الخاصة بالسياسة الدولية في نصابها.

ما إن يظهر هذا التعبير الهلامي كأحد أبجديات السياسة اللبنانية حتى يظهر حزب الله كرجع للصدى. هذه السياسة المتخاذلة ساهمت في ضرب سياج من العزلة الإقليمية على هذا البلد حتى صار دويلة حزب الله في تعريف وزير العدل اللبناني المستقيل أشرف ريفي.

جاء القرار السعودي المتعلق بإيقاف هبة الـ4 مليارات دولار المخصصة لمؤسستي الجيش والقوى الأمنية، حاسما لموقف طالما طالبت الدول العربية من لبنان تحديده، وفي أي خندق تقف. حاولت الحكومة اللبنانية التبرير بأن سياسة النأي بالنفس واردة في البيان الوزاري للحكومة، ولكن وحسب سياسييها أنفسهم فإنه يمكن تغييرها أو تعديلها أو توضيحها لأنها ليست منزلة. ولكن وبغض النظر عن ورودها في بيان الحكومة اللبنانية أو كشيء نابع عن رغبة السلطة، فإن الملاحظ أن هذه السياسة يتم تطبيقها بشكل انتقائي ووفقا لمصالح حزب الله وإيران.

يمكن تقدير هذه الحالة بتسلسل بسيط للأحداث وفقا لما اتخذته لبنان لنفسها من قرارات، كانت تظن أنها سترفعها إلى موقف القوة وتضمن لها هامشا من المناورة، أو رقصا على حبال المواقف. لذا وضعت قرارها على طرفي نقيض: الطرف الأول دول الخليج بقيادة المملكة العربية السعودية، والدول العربية الحليفة، والطرف الثاني إيران وحزب الله.

هذه السياسة عضد منها نجيب ميقاتي رئيس الوزراء اللبناني المستقيل في عام 2013م. ظل ميقاتي مفتونا بها لاعتباره ألا مصلحة للبنان إلا بأن تنأى بنفسها عن الكثير من المواضيع العربية. وظل مؤكدا عليها بحجة أنها ضمنت لبلاده الاستقرار والأمن والسلام، ولعله لا يغيب عن الأجندات السياسية السبب الحقيقي في أمن وسلام لبنان وهو حجم الدعم الذي ظلت المملكة تقدمه لها في سبيل أن تظل آمنة مستقرة. وهذا الدعم السخي لمؤسستين حيويتين يمثلان عصب كيان أي دولة لم يكن ليقدم لولا إحساس المملكة بحجم ما يحيق بالوطن العربي من مؤامرات.

لم يغير ميقاتي من موقفه إلا بعد قرار المملكة الأخير بإيقاف المساعدات، فقد دعا الفرقاء اللبنانيين إلى مراجعة المواقف، ولكن بعد أن نأى ببلاده كل النأي حتى خرجت من كل ما يتعلق بالقضايا العربية.

محطة أخرى يجب التوقف عندها وهي غياب لبنان للمرة الثانية على التوالي عن اجتماعات جنيف لمجموعات العمل الدولية على مستوى الخبراء، والمنبثقة عن الاجتماع الوزاري الأخير لمجموعة الدعم حول سوريا، بعدما شاركت لبنان في الاجتماع الأول في الثاني عشر من فبراير الحالي في جنيف. وقد كان لغياب لبنان المتضررة من تداعيات الأزمة السورية صدى واسع في أروقة الاجتماعات، غير أنه لم يكن مثيرا للاستغراب نظرا لمن بات يتخذ قراراتها ويحدد سياساتها.

ولكل هذا وجب السؤال: ممن يكون النأي بالنفس عندما يقف عدوك أمامك يمزق المنطقة ويهيمن عليها؟

وممن يكون النأي بالنفس عندما تكون المعادلة في وضوح الشمس بين قوى طامعة تحتشد خلف تنظيمات إرهابية، وقوى شقيقة ترعى حرية بلادك واستقلالها وكرامتها وأمنها وأمانها؟

وممن يكون النأي بالنفس عندما يختار لبنان طريقا يؤسس للطائفية السياسية والثقافية حتى أصبح تمزيق الهوية القومية أقل الأخطار المتداولة على لسان العامة؟

هذا المفهوم لا يعدو أن يكون فكرة تسويقية غير ذكية لموقف رخيص، يقف حقيقة في خانة العدو ويخشى المواجهة المباشرة والعلنية مع من يمد لها يد العون ويتضامن معها كي لا تخسر الدعم وتحافظ في الوقت نفسه على تحالف الظلام. لبنان أعلنت موقفها وكان القرار حازما تجاهها، فآن لبعض الدول الأخرى التي تمسك بالعصا من منتصفها أن تتحسس مواقفها المترددة.