الصادق الرزيقي

د. الـترابــي .. محـض حـــزن..ومحـض دمـــوع


> لن تكون هذه مرثية..فالمراثي تتقاصر دونه.. والبيان تحتبس مكلوماً كأن لم يولد يوماً كلاماً .. وهذا الرحيل المفجع المر..لم تعد فيه المرثيات مراثٍ، ولا الأدمع دمعا ً، ولا الحزن حزناً.. لكن لا نقول إلا ما يرضي الله.. فـ«كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام»..
> ليس الدكتور حسن عبدالله الترابي، من تذرف المآقي ماءها ودمعها ثم تجف، بل القلوب ستُدمي كما تشاء، والأرواح تشهق كما تشتهي، والفؤاد ينكسر انكساراً ليس بعده انكسار..
> يوم رحيله علامة في تاريخ هذا البلد، والدعوة تطوي صفحة بمماته وتنشر أخرى أوسع وأكثر سطوعاً، هو الضوء الشهابي السائر خلفه الى يوم القيامة هو هناك وذيل الضوء عندنا هنا لا ينطفئ، اليوم انقطع جهده وجهاده واجتهاده، واليوم أذاناً بخلود فكره وعمله وإخلاصه وكسبه، فمثله يصدق أن الموت حق ولا باقٍ إلا الله الحي الذي لا يموت ذو القوة المتين..
> كل فزع في هذا الخبر بآماله إلى الكذب .. لكن قضاء الله والواحد الأحد واقع ونافذ.. رحل الرجل الذي كتب لهذا البلد رسماً واسماً وهوية وصيتاً، وجعل الحنيفية السمحاء تسري في أوصاله، يغيب اليوم كما الشمس، أو قل كما الفرقدين .. صدق الله في عمله فصدقه الله بمشيئته أن تتحول الدعوة التي عمل من أجلها مذ صباه وشبابه ورجولته وكهولته حتى آخر يوم في حياته، فجعلها هي العليا وهي الحبل الذي اعتصم به أهل السودان، وصارت أفكاره ودعوته وذريته الفكرية هي العواصم من القواصم، لبلد كان على مهب الريح..
> سيسيل مداد كثير وثقيل الوزن في الدكتور حسن الترابي رحمه الله وغفر له، يعدد فضله وفضائله وحياته وفكره وأعماله الصالحات، لكن سيتفق الجميع أنه بلا قرين او شبيه او ترب او نظير، رجل فريد في زمانه وبديع في بيانه، ساطع الذهن وثاقب التفكير، سبق عصر وأوانه، وفات أترابه وأقرانه، وقدم للإنسانية وللإسلام عملاً متقبلاً بإذن الله، صاغه في بناء الحركة الإسلامية الحديثة وتجلياتها على العمل الإسلامي في العالم كله ومئات الإلوف، بل الملايين من الأتباع والتلاميذ والمؤيدين والمحبين، هم من رصًّع بهم سماء التاريخ والحياة التي عاشها وتركها خلفه وهو مطمئن إن كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين في أسفل سافلين..
> عاش هذا الرجل حياته لله.. وعاش شديد اليقين بما ظل يؤمن به ويعمل من أجله..لم يكن هناك من يوقن بفكرة ويستمسك بها ويخاطر في سبيلها ويتحمل الأذى مثله، فكل أجيال الإسلاميين منذ خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم، تحمل د. الترابي وحده معاركهم السياسية والفكرية، غطاهم بجسده النحيل فانهالت كل السهام والحراب والرماح وضربات السيوف عليه، كل الأذى والفتن والسجون والمعتقلات والهجوم الشخصي، تحملها في شجاعة نادرة وافتداء غريباً لما يزيد عن الستين عاماً، ولم تهن له عزيمة او تضعف منه همة او يتراجع في نزال..او سجال.
> كل معارك الإسلاميين السياسية والفكرية والفقهية والدعوية.. تحملها هو وحده، يحدد مكان المعركة وسلاحها ويجر خصوم الحركة الإسلامية إليها فيصرعهم في ميدان المنطق والفكرة والبيان واللسان ووضوح الرؤية وشمول الهدف..
> عندما تقيسه وتقايسه بكل الإسلاميين في السودان وغيره من بلدان العالم الإسلامي، لتجدنه أشجعهم وأشدهم صبراً وبأساً واحتساباً..وأكثرهم عطاءً. وعطاؤه ليس نظراً مجرداً لا تختبره التجربة، بل فكرة وعملاً وتطبيقاً وإنجازاً ..
> قدم كل حياته وعمره خالصاً لله، لم يجرِ وراء مكسب من لعاعات الدنيا، وكانت الدنيا كلها طوع بنانه لو أشار إليها لأقعت كما الكلب تحت قدميه، لكنها لم تفتنه او تغريه، كان قلبه معلق بالسماء وبملكوت الله الذي ليس بعده فناء ولا عدم، وكان فؤاده ممتلئاً باليقين والإيمان الصادق، وهو الذي فاض منه في قلوب الآخرين حتى ثبتهم وثبت أقدامهم في مسير الدعوة والفلاح..
> عاش كالطود الأشم .. قوياً .. صلداً شامخاً عنيداً.. وتلك سمة القائد..بني الحركة الإسلامية الحديثة، وكانت قبله مجموعة صغيرة مستضعفة لا حول لها ولا قوة.. فقادها وخاض بها الكروب حتى قادت الدولة وبلغت شأوها ومكانتها، وقويت شوكتها وهي تعاند الخطوب وتتحدى المؤامرات والصعاب..
> بقدراته الذاتية وتفوقه الذهني، استطاع أن يشق طريقاً لحركة الإسلام الحديث والحركات الإسلامية جمعاء، باجتهادات في الفقه والسياسة الشرعية والاقتصاد والفن ودور المرأة والنظم الدستورية، ورافق كل ذلك ببناء تنظيمي تفوق فيه على الأحزاب العقائدية من شتى الملل والنحل والعقائد في العالم، ويشهد له الجميع أن قدراته الإدارية والتنظيمية وسعة أفقه ورجاحة تفكيره وقدرته على إنزال الفكر الى الواقع، ومواءمته ما بين النظر والعمل، هي التي انتجت كسب الحركة الإسلامية ودورها الاجتماعي والسياسي والفكري..
> رجل لن يتكرر..لن يجود الزمان بمثله قريباً.. هكذا هم المصلحون والمفكرين في مسار التاريخ، يبزغون كالفجر، يمتد شعاعهم يغطي وجه الحياة ويملؤها بالفكر والعمل والاجتهاد والعزيمة والإلهام، حتى تفيض بالأرض بما وهبوه للحياة.. فيرحلون.. لتبدأ دورة جديدة في الحياة الى أن يظهر مجدداً مصلح آخر..
> هكذا كان شيخ حسن.. جاء في زمانه وأوانه.. ورحل في أوان كان فيه السودان وجموع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تنتظر من كبار مفكريها وأفذاذها أن يحملوا القناديل لمسافة أطول والعالم يشهد حرباً ضروساً على الإسلام وقيمه وتعاليمه وحضارته..
> هكذا كان شيخ حسن .. شديداً وقاهراً في وقت الشدة حتى لتظن أن الشجاعة والشدة وقوة البأس لم يهبها الله لغيره، ورفيقاً متساهلاً في وقت اللين، حتى لتظن ليس هناك من هو أرق منه وأكثر طيبة ولطفاً، تفقه في الدين فعرف معناه الحقيقي فتمثله، وعرف الحياة كلها بعلومها وثقافتها وفلسفاتها وتواريخها ولغات شعوبها الرئيسة وعلومها التطبيقية والنظرية، غرف من كل معرفة وعلم ومعين، مكوناً قيمة معرفية شاملة لم تتوفر في قائد ورمز مثله..
> جمع شيخ حسن سحراً خاصاً به .. كل من قابله، انجذب له انجذاباً..تجده عند الأجانب الذين زاروه وتقابلوا معه من عمال السياسة الفكر والصحافة والنشطاء والمفكرين والدعاة والحكام، ما من أحد قابله إلا وترك أثراً لا يزول في القلب والعقل .. بعضهم يسمع ويظنه مجرد رجل دين .. فعندما يقابله يلقى شيخ حسن عصرياً أكثر من أي شخص، ملماً بتفاصيل ما يجري في العالم كأنه وحده في لجة ما، يدور، مازج ما بين الأصول وعلومها وقواطعها وجدد فيها، وما بين العصر الحديث وتحدياته ومستحدثاته..
> لقد رحل الرجل الذي أعطى الفكر والسياسة والدعوة، قيمتها الحقيقية، كان سودانياً لقاحي السليقة عندما تطفو معه على عباب الثقافة والمجتمع، والأنساب والقبائل والأشعار والدوبيت والقصص والشعبيات والتراث والتاريخ والصوفية وعبقريات المكان السوداني الذي يشبه حلوق العصافير..
> رحل الرجل .. الذي وهب في كل بت سوداني فتىً وفتاة يحملون مشاعل الدعوة الإسلامية وفكرها الناصع، فقاد بهؤلاء الشباب التغيير الاجتماعي والسياسي الذي حدث في السودان، ووهب لكل أسرة سودانية تجربة حرية وكل بيت قيمة أصيلة نابضة بالحياة.. فهذا النسل الفكري سيمتد وسيعيش لعقود طويلة يتزود من الطاقة الحيوية التي تركها الدكتور الترابي من عصارات عقله وفكره وتجربته وإخلاصه وعمله المبتغى فيه وجه الله..
> لم يقتصر تأثير الدكتور الترابي هنا بين ضفتي بلدنا السودان وداخل حدوده،بل استلهم منه العالم الإسلامي وشبابه الناهض وتياراته الفاعلة منهجه وأسلوبه، صار رمزاً من رموز الصحوة والبعث الحصاري الإسلامي في العالم ، استضاء بنور أفكاره العديد من الحركات والأحزاب والتيارات الفكرية والسياسية الإسلامية في العالم أجمع..
> رحل الدكتور الترابي.. والسودان يتأهب لمرحلة جديدة كان هو من صناعها، وكانت اللحظة الحاسمة تنتظره، لكنه ويا سبحان الله! توقع رحيله وكأنه كان يراه أمامه، كأنه كان يرى نذير الموت ونقيره هناك يشير عليه أن يستعد للرحيل، فكلماته تصريحاته في الأشهر الأخيرة، وخطبه وأحاديثه ممتلئة بالرحيل والانصراف عن الحياة ومغادرتها إلى ملكوت الله الفسيح، هذا العرفان كان سمة من سماته، ولذا جسد له قدر الله (حديث الفسيلة)، لم يداهمه الموت وعلته القصيرة وهو راقد على فراشه أو مسجى في مخدع ينتظر قدره، داهمه الموت وهو في مكتبه يعمل ويكد ويجتهد..
> مثله أقوى من المرض والعلل، مات وهو يقف في مكابدة الحياة ومواجهتها، وليس هناك نهاية مشرفة أكثر من هذه النهاية لرجل شيبيته ليالي الجهاد والاجتهاد والبناء والسهر والمعتقلات والسجون والترهيب والتنكيل، لكنه كالجبل والصخرة عاش بصلابته ومات بها..
> أيها الإسلاميون.. ترك لكم شيخ حسن أفكاره ومنهجه وسلوكه ونظام حياته المفتوح وعلاقاته، فإن تمسكتم بها توحدتم ونجوتهم ونجا السودان، وإن اختلفتهم في ميراثه وضيعتموه، من بعد غيابه، خسرتم وخسر السودان بعد ذهاب ريحكم..
> أيها الإسلاميون.. ها هو شيخنا يمضي الى ربه بعد حياة طويلة عاشها تنازعناه وتنازعنا حوله وتنازعنا معه، خالفناه واختلفنا فيه واختلفنا معه، لكنه كالضوء والماء يتسرب من بين أيدينا راضياً مرضياً، كان في أيامه الأخيرة ينظر بشفقة إلى مصائرنا ويملأه الأمل بأن شمساً دافئة ستشرق وترفرف أجنحتها فوقنا، وكان يملأ قلبه باليقين أن ما عنده الله خير وأبقى، «أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم»..
> أيها الإسلاميون .. رحل الشيخ الأب المؤسس والباني لكل هذا الصرح، لقد أعطانا حياته كلها ووهب لنا تجربة وخبرة واجتهاد، فهل يعطينا مماته عبرة وعظة؟.. ونرى الدنيا كما رآها ونلمسها كما لمسها ونستشرف ما وراءها كما كان يرى..؟
> رحم الله الدكتور حسن عبدالله الترابي، فهو ليس عزيز على بارئه ومصوِّره، فهو بين يديه.. اجتهد وأعطى وعمل وقد بذل في سبيل الله كل ما عنده.. ستكون له كل هذه الأعمال شفيعة عند مولاه ومثوبة ومغفرة .. اللهم اغفر له واجعله في رحابك عزيز المقام، مع النبيين والصديقين والشهداء، أكرمه ولا تخذله، ألطف به ووسع قبره وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله، واجعل مقعده مقعد صدق عندك يا مليك يا مقتدر ..