مزمل ابو القاسم

ليست المدينة الفاضلة


* في حوارٍ أجرته الزميلة (الصيحة) مع المهندس إبراهيم محمود، مساعد رئيس الجمهورية، وروجت له الصحيفة قبل أن تنشره، ذكر أن السودان يعاني من مشكلة في ميزان مدفوعاته، لأنه يستورد بضائع بقيمة تسعة مليارات دولار، ويصدر ما قيمته ثلاثة مليارات دولار فقط.
* بمقاييس الاتهامات الموجهة للصحافة حالياً، يعد حديث مساعد الرئيس (سلبياً ومحبطاً ومثبطاً للهمم)، وبمقياس الحقيقة والواقع يعتبر حديثه منطقياً ومطلوباً، لأنه يعبر عن واقع ماثل، وحقيقة موجعة، ينبغي الاعتراف بها سعياً لمعالجتها، من باب (الاعتراف بالمشكلة يمثل أول أطوار الحل).
* الصحافة ليست مطالبة بأن تصنع عالماً افتراضياً لا يمت إلى الحقيقة بصلة، لأنها تمثل مرآة المجتمع، وضميره النابض.
* مطلوب منها أن تنقل الحقيقة كما هي، وألا تفرط في استخدام مساحيق التجميل حتى ولو تلطفت في النشر، لأن ذلك يصيب مصداقيتها في مقتل، ويضعف ثقة قرائها فيها، ويقلل من احترامهم لها.
* صحيح أنها – أي الصحافة – تظل مطالبةً بإبراز الإيجابيات، والتبشير بها لاستنهاض الهمم، وتبقى معنية بالتحريض الإيجابي للمجتمع، على تعزيز القيم الجميلة، وترسيخ معاني الفضيلة، وحض الناس على العمل والإنتاج، لكنها ليست مطالبة بأن تخفي السلبيات، وتهيل التراب على العيوب المتعلقة بالأداء العام.
* الصحافة سلطة رقابية، تنوب عن المجتمع في متابعة الأداء العام، لذلك كفل لها الدستور الحرية، وحماها بمواد محددة وقاطعة، ونص على إتاحة المجال أمامها لتؤدي عملها على أكمل وجه.
* بل إن الدستور ألزم الدولة (بكل مكوناتها) بأن تكفل حرية الصحافة، وتمكنها من أداء دورها (في مجتمع ديمقراطي)، وفقاً لما ينظمه القانون.
* النص المذكور لم يذكر اعتباطاً، لأن توافر المجتمع الديمقراطي يمثل أول وأهم ضامن لحرية التعبير عموماً، وحرية الصحافة على وجه الخصوص.
* حتى الاتهام الذي يلاحق الصحافة، ويقول إنها تبرز عيوب المجتمع السوداني، وتركز على نشر أخبار الجرائم، وتشوه الصورة العامة للبلد، مردود عليه بأن الصحافة لم تختلق تلك الجرائم من عدم، لأنها تحدث، وعدم نشرها لا ينفي وجودها.
* كل صحف العالم تنشر أخبار الحوادث، وفي العديد من الدول توجد صحف مختصة، تخصص كامل صفحاتها لملاحقة أنباء الجرائم، وتنشر تفاصيلها مدعومة بالصور، ولا أحد يتهمها بأنها تشوه صورة مجتمعاتها.
* المطلوب حقاً هو تعزيز الدور الرقابي للصحافة، وتقبل نقدها للأداء العام، والتعامل معه على أنه أمر مهم ولازم لكشف العيوب، وتوضيح السلبيات، سعياً لمعالجتها، ومطلوب كذلك من الصحافة أن تتوازن في طرحها، وتتناول الإيجابيات مثلما تتطرق إلى السلبيات، وأن تعلي قيم المهنية، وتلتزم جانب المصداقية، ولا تفرط في الإثارة، كي تكسب المزيد من احترام الناس لها، علماً أن الصحافة السودانية ظلت تؤدي واجباتها بدرجةٍ عالية من الانضباط المهني، وهي – ككل المهن الأخرى – لا تخلو من الزلل، وليست منزهة من الخطأ.
* ألا يخطئ الوزراء.. ألا يخطئ الأطباء والمهندسون والفنيون.. فلماذا يتوقعون من الصحافيين تحديداً أن يتنزهوا عن الخطأ، ليبتدعوا المدينة الفاضلة؟