مقالات متنوعة

محجوب عروة : زمان الترابي .. (1)


صدق ﷲ العظيم القائل في كتابه العزيز:( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور)… وأنا أتابع وأتجول أمس في مقابر الشريف للمشاركة في مواراة جثمان الراحل المقيم المرحوم د. حسن عبد ﷲ الترابي وأشاهد الأعــداد الضخمة من كل ألــوان الطيف السياسي والاجتماعي والفكري والاقتصادي والعلمي والمهني عادت، بي الذكريات الى ضحى ذلك اليوم من أواخر شهر يونيو 1966 وأنا أتاهب للسفر الى مدرستي كسلا الثانوية للسنة الثالثة بعد انقضاء الإجازة الصيفية فأخذت شنطة كبيرة من منزل عمي اللواء عروة في حي الصافية بالخرطوم بحري للذهاب لمنزل خالي عثمان الحسن بحي الأملاك الذي يجاور بصات السفر صباحا لكسلا العزيزة التي كانت مولد الفقيد وولدت فيها أنا.. وفي طريقي لبص المزاد دلفت الى منزل يجاورنا في الحي لشقيقه المرحوم محمد الحسن الذي كان يسكنه د. حسن الترابي حينها. أذكر تماما كيف استقبلني الدكتور الترابي بتواضع جم وأنــا طالب شاب لا يتجاوز عمري السبعة عشر عاما رغم أنه كان هو من هو تلك القمة السامقة آنذاك الأمين العام لجبهة الميثاق الإسلامي وقبلها عميد كلية القانون لأعظم جامعة سودانية تخرج في جامعتي أكسفورد وفي السوربون الشهيرتان وكان د. الترابي المحرك الأساسي لثورة أكتوبر 1964 والتي أهلته ليكون في قمة الحياة السياسية حتى اليوم. وبعد التحايا سألني عن وجهتي فأجبت: ( حي الأملاك ببحري) فأصر أن يحملني بسيارته الى منزل خالي رغم أنه يسلك عادة كبري شمبات للوصول الى دار جبهة الميثاق الإسلامي بأمدرمان جوار مبنى البلدية الشهير .. أكبرت فيه ذلك التواضع واحترامه للشباب منذ ذلك الوقت وكان عمره حينها أربعة وثلاثون عاما.. تأثرت بالترابي كثيرا في أفكاره الإسلامية غير التقليدية وعنفوانه وقوة منطقه واستماتته في الدفاع عن حركة الإسلام وظللت مهتما بمحاضراته ولياليه السياسية العامرة لا تجدنا الا ونحن متشوقون لسماع أطروحاته وأفكاره الملهمة للعمل الإسلامي النهضوي المعاصر.. لم يكن الراحل الكبير رجلا أو سياسيا أو مفكرا إسلاميا عاديا اتفق الناس معه أو اختلفوا بل كان عالما فذا وأمة بحالها، نشر فكره فتلقفه جيله.. كان زعيما كاريزميا بحق، صحيح أن معظم من حوله من الناشطين الإخوان في كل المجالات أضافوا اليه بحكم وضعه المركزي في الحركة لكن كانت لديه القابلية ليحول كل ذلك الى عمل استراتيجي لا يخلو من تكتيكات ذكية تفرضها ضرورات العمل العام والإسلامي خاصة.. تجلت عبقريته الاستراتيجية وعلمه الموسوعي في أنه حين أصبح زعيما بلا منازع للحركة الإسلامية بدأ من دوره الحاسم في ثورة أكتوبر ٦٤ حيث ضحى وغامر مستقيلا من منصبه المرموق كعميد لكلية القانون الذي يتمناه كل خريج آنذاك من أجل أن يطرح رؤى جديدة ومتقدمة أكثر توسعا للحركة الإسلامية من مجرد منهج التربية الى آفاق العمل السياسي الواسع وحجته في ذلك على ما أذكر ويقول لنا إنه الضمانة الوحيدة كي لا تضرب الحركة الإسلامية في السودان مثلما تعرضت له في بلاد عربية أخرى فانتشارها وتوسع تحالفاتها السياسية الوطنية بدلا عن التشرنق في منهج التربية يضعف محاصرتها وضربها، ورغم ما سبب ذلك من خروج البعض القليل من القيادات والقواعد الإخوانية الا أن منهجه ذاك أكد صحته فحافظ على كيان الحركة الإسلامية السودانية وعبر بها تضاريس السياسة السودانية وموجاتها المتلاطمة حتى جلست في قمة السلطة السودانية وأصبحت أحد منذ أن تسنم زعامتها بجدارة مرورا بنظام مايو الذي حبسه سبعة أعوام ثم ما بعدها لم تهن عزائمه لبلوغ أهدافه..
نواصل.