تحقيقات وتقارير

المسئولية الجنائية للطبيب في الإسلام


سبقت الحضارة الإسلامية غيرها من الحضارات في تشريع حضاري يحدد المسئولية الجنائية للطبيب الممارس . والتشريع الوحيد الذي سبق عصر الإسلام واشتمل على قواعد تتعلق بممارسة مهنة الطب هو ما جاء في قوانين حمورابي (1905- 1948 قبل الميلاد) والتي نقشت على مسلة من الصخر البلورى – محفوظة في متحف اللوفر بفرنسا – ووضعت في معبد بمدينة بابل . وقد اتسمت قوانين حمورابي بالجزاءات الصارمة والقسوة تجاه أخطاء الطبيب المعالج إلى الحد الذي يجعل ممارسة الطب أمراً صعباً يلقي بصاحبه إلى التهلكة.
لقد فرقت الشريعة الإسلامية بين الطبيب الجاهل و الطبيب الحاذق في المسئولية الجنائية. فالطبيب الجاهل بلغة العصر هو الذي لم يحصل على مؤهل طبي، والطبيب الحاذق هو الذي حصل على درجة علمية من كلية طب معترف بها تؤهله لممارسة الطب. ويضاف شرطان آخران في تحديد المسئولية الجنائية للطبيب الحاذق أولهما: أن يكون مأذوناً له من قِبل الحاكم بممارسة المهنة، وهي المهمة التي يطّلع بها في الوقت الحاضر المجلس الطبي. فمتى تم تسجيل الطبيب في المجلس الطبي أصبح مأذوناً له بممارسة المهنة . والشرط الثانى: هو أن يكون مأذوناً له بالعلاج من المريض أو وليه إذا كان المريض قاصراً أو فاقد الأهلية . فمتى قصد المريض عيادة الطبيب فقد أذن ضمنياً للطبيب بعلاجه . أما في حالات العلاج بالأقسام الداخلية بالمستشفيات والعمليات الجراحية فإن الإذن تنظمه الإقرارات التي يوقعها المريض أو من ينوب عنه.
فالشريعة الإسلامية تعتبر ممارسة الطب من فروض الكفاية، وواجباً على من تخصص فيه من المسلمين إذا لم يقم به غيره، والواجب لا يتقيد بشرط السلامة مادام الطبيب حاذقاً ولم يهمل في عمله. وأداء الطبيب لواجبه متروك لاختياره ولاجتهاده العلمي و العملي، وله مطلق الحرية في اختيار العلاج الذي يراه مناسباً لحالة المريض مادام متقناً لصنعته ولم يخالف أصول المهنة . فالمسئولية الجنائية مرفوعة عن الطبيب لأن عمله ضرورة اجتماعية بشرط أن يكون مأذوناً له من جهة الحاكم ومؤهلاً علمياً وعملياً، وأن يكون قصده شفاء المريض وليس الإضرار به، وألا يقع في خطأ يتنافى مع أصول المهنة، وأن يكون ماذوناً له من المريض أو وليه.
فإذا قام طبيب حاذق مأذون له من جهة الحاكم ومن جهة من يطبه بعلاج مريض وأعطى الصنعة حقها فتولد عن فعله تلف عضو، أو ذهاب صفة، أو موت مريض و لم يكن ذلك نتيجة خطأ في العلاج فإن الطبيب لا يكون مسئولاً عما حدث و لا تلزمه الدية أو تعويض لأن ما حدث لا يمكن توقعه أو دفعه. فالقاعدة الفقهية هي أن الضرر أو الموت إذا حدث نتيجة لفعل واجب مع الاحتياط وعدم التقصير فلا ضمان فيه. مثال ذلك إذا أعطى الطبيب عقاراً ناجعاً للعلة التي يشكو منها المريض ثم حدثت مضاعفات للمريض أو فقد حياته نتيجة حساسيته لذلك العقار ولم تكن معروفة من قبل تناوله العقار فلا شئ على الطبيب.
أما إذا عالج الطبيب الحاذق مريضاً وأتقن عمله ولكنه أخطأ بأن أتلف عضواً صحيحاً أو وصف دواءً أدى إلى موت المريض أو ضرره فإنه يكون مسئولاً وتلزمه الدية – وتكون دية المريض على عاقلة الطبيب ( قرابته من جهة الأب) أو في بيت مال المسلمين أي على الدولة – أو تعويض الضرر. مثال ذلك إذاأخطأ الجراح فاستأصل الكُلية السليمة لمريض بدلاً من الكُلية التالفة.
أما إذا عالج الطبيب الحاذق مريضاً بغير إذنه أو إذن وليه فقد اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة مذاهب. فمنهم من يرى أن الطبيب يكون مسئولاً عن الضرر الذي يمكن أن يحدث نتيجة العلاج على اعتبار أنه تولد من فعل غير مأذون به. وتكون الدية على عاقلة الطبيب. ومن الفقهاء من قال بعدم المسئولية لأن مناط الضمان هو كون الفعل قد جاء على وجهه أو لم يجئ ، ولا أثر للإذن وعدمه فيه مادام الطبيب حاذقاً وقد أتى بالفعل على وجهه وبذل فيه غاية جهده فلا ضمان عليه و لا دية. فالطبيب في هذه الحالة محسن، وما على المحسنين من سبيل . بينما ذهب فريق ثالث إلى وجوب أخذ الدية من بيت مال المسلمين حتى لا يضيع دم مسلم مات خطأ أو يهدر حقه في التعويض.
ونحن نرى أنه من الأنسب الأخذ بالرأى القائل بعدم اشتراط إذن المريض أو ولى أمره لنفي المسئولية عن الطبيب في الحالات التي تتطلب تدخلاً طبياً أو جراحياً سريعاً لإنقاذ المريض أو إذا كان المريض فاقد الوعي لأن ذلك أقرب إلى روح الشريعة ومقاصدها في حفظ النفس.
أما إذا عالج الطبيب الجاهل مريضاً و أوهمه أن له علماً بالطب و أذن له المريض بعلاجه ظناً أنه ذو دراية بالطب فمات المريض أو أصابه تلف من جراء العلاج فأن الطبيب الجاهل يكون مسئولاً عن ذلك و يُلزم بدية النفس أو تعويض التلف مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم “ من تتطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن” أي مسئول.
أما إذا كان المريض يعلم أن الطبيب جاهل ولا علم له بالطب و أذن له رغم ذلك بعلاجه فإن الطبيب الجاهل لا يكون مسئولاً عن الضرر الذي يلحق بالمريض نتيجة هذا العلاج لأن الغرر والغش قد انتفيا في هذه الحالة، لكن يحجرعلى ذلك الطبيب الجاهل و يمنع شرعاً من ممارسة الطب.
كنت اتحدث مع أحد الأطباء السودانيين الشبان عن مسئولية الطبيب تجاه المرضى المعدمين الذين يقصدونه في العمل الخاص فقال لي: “ لو تعرّضت يوماً ما للتحقيق معك بخصوص شكوى مريض أو ذويه لنالك من المذلة و المهانة ما هو كفيل بأن يحملك على ألا تتعاطف مع أي مريض مهما كان وضعه !”
و أنا اضيف أن هذا الطبيب يتحدث عن مساءلة الأطباء في السودان التي تتم في المجلس الطبي و ليس في النيابة أو أمام المحاكم. فبالقدرالذي يجب فيه المحافظة على حقوق المريض يجب صيانة كرامة الطبيب و منزلته و شرفه و شرف مهنته. وأنا اقتراح هنا آلية يتم استفاؤها قبل أن تعرض القضايا الطبية على المحاكم.
· تتولى دراسة الأخطاء الطبية والتحقيق فيها في كل مستشفى لجنة للجودة النوعية تُحال إليها الحالات من كل أقسام المستشفى بعد دراستها في اجتماع علمي دوري للقسم تناقش فيه الحالات المرضية التي حدثت فيها مضاعفات أوانتهت بالوفاة.
في حالة شكوى مريض أو ذويه يجب أن يكون المجلس الطبي هو الجهة المسئولة التي تُحال إليها الشكوى والذي بدوره يستطلع رأي لجنة الجودة النوعية في المستشفى الذي كانت فيه الحالة موضوع الشكوى، و لاتقبل الشكوى من قبل السلطات القضائية – كما هو الحال في القضايا الأخرى- إلآ بعد الرجوع إلى المجلس الطبي.
· إذا رأى المجلس الطبي أن الشكوى لا تستند إلى بينة، ولم ينتج الخطاً عن إهمال أو عن مخالفة لأصول المهنة فإن الشكوى تُرد . وأما إذا كانت الشكوى مبررة فإن الشكوى تُحال إلى هيئة تأمين يتولى محاموها القضية نيابة عن الطبيب ، كما تتولى دفع أي كفالات أو غرامات مستحقة عن الطبيب.
· تموّل هيئة التأمين من نقابة الأطباء عن طريق اشتراكات سنوية يدفعها الأطباء.
هذا الترتيب له فوائد عدة منها:
· حفظ هيبة وماء وجه الأطباء وعدم تعريضهم للمثول أمام المحاكم .
· حفظ أوقات الأطباء وعدم إهدارها في جلسات قضايا قد تطول .
· بعث الثقة في الأطباء وشعورهم بالأمان وهم يؤدون واجبهم الإنساني دون خوف من وقوعهم تحت طائلة القانون.
· القضاء على الشكاوى الكيدية أو الشكاوى التي يهدف رافعوها من ورائها إلى الكسب المادي.

د /أحمد محمود طه مكي استشاري الأمراض الباطنة والقلب

صحيفة ألوان