هيثم كابو

أم اليتامى


* يجب علينا في مثل هذه الأيام أن نخلع نعلينا إجلالاً وتقديراً أمام محراب الصحافي المصري الرقم مصطفى أمين صاحب فكرة الاحتفال بعيد الأم بالشقيقة مصر، تلك الفكرة التي كانت موجودة بالغرب ولكن تدشينها على المستوى العربي تم بواسطة (صاحب أخبار اليوم) في عام 1956م لتعم العواصم العربية واحدة تلو الأخرى..!!
* تحمس مصطفى أمين للفكرة وقاتل من أجل زراعتها في أرض الواقع رغم الحملة الشرسة التي تعرض لها آنذاك واتهامه بالسعي لضرب الأمة العربية في الخاصرة عن طريق عادات وافدة وإستلاب صريح بهدف (غربنة) المجتمع العربي، لاسيما وأن دعوته الأولى انطلقت من بين صفحات كتاب (أمريكا الضاحكة) الذي صدر في عام 1943م ولم تجد أذنا صاغية!!
* أعاد مصطفى أمين التبشير والمطالبة بتنفيذ الفكرة مرة ثانية بعد أكثر من عشر سنوات عندما زارته (أم مكافحة) قضت أخضر سنواتها ويابس عمرها في تربية أبنائها في ظروف صعبة ونضال طويل بعد أن لعبت دور (الأم والأب) حتى رأت أبناءها كما تحب..!!
* ليس مهماً أن يختلف ميقات الاحتفال بعيد الأم من بلد لآخر، ولكن المهم حقاً أن يكون هناك يوم للتفكر والتدبر والتذكير بتضحيات الأمهات وكفاحهن ورحلة نضالهن وتعظيم الدين لهن..!!
* في السنوات الأخيرة بات الاحتفال في الحادي والعشرين من مارس بعيد الأم من قبل كثير من المنظمات والمؤسسات وعلى نطاق الأسر الكبيرة والصغيرة أمراً ليس مستغرباً عندنا وتلك ظاهرة حميدة وسلوك نبيل فيه كثير من معاني الوفاء وتعزيز قيم المحبة والتأمل في سيرة التضحيات الجسام والصبر الطويل والمعاناة الدائمة لأمهاتنا اللاتي يتدفقن حناناً وخوفاً وقلقاً ورعاية منذ أن تضع الواحدة منهن حملها وإلى أن تغمض إغماضتها الأخيرة.
* يحسب لشركة زين للهاتف السيار أنها ظلت لخمس سنوات متتالية تواصل في فكرة تكريم الأمهات المثاليات حتى مساء أمس الأول، تلك الفكرة التي ابتدعتها (منظمة شباب البلد) الموءودة قبل خمس سنوات بطرح استمارات عبر وسائل الإعلام لترشيح أمهات مثاليات من كافة بقاع السودان مع سيرة ذاتية تعكس رحلة كفاحهن والأسباب التي دفعت المرشحين لطرح أسمائهن للتنافس على جوائز الأمهات المثاليات، ورعت (زين) وقتها الاحتفال في عامه الأول من خلال حفل بهيج بثته قناة النيل الأزرق الفضائية على الهواء مباشرة أمه معظم أعضاء المنظمة المؤسسين من إعلاميين وفنانين وشعراء حيث جاء كل منهم برفقة والدته وتغنى سلطان الطرب كمال ترباس صاحب (أمي الله يسلمك) ومجموعة من الفنانين الشباب، بل وكرم يومها الفريق طيار الفاتح عروة شقيقته والدة صديقنا العزيز أمين خزينة نادي المريخ السابق خالد شرف الدين التي تمثل عنواناً بارزاً للتضحية فقد هجرت الدنيا بعد وفاة زوجها وتفرغت لتربية أبنائها..!
* لاحظت أن القائمين على مواصلة شركة زين لمشوار تكريم الأمهات المثاليات يتحدثون في كل عام باعتبار أن الشركة هي (صاحبة الفكرة وسيدة المبادرة) وتلك معلومة ليست حقيقية، فالفكرة بشكلها الحالي ومسابقتها ولجنتها طرحتها وقدمت النسخة الأولى منها منظمة شباب البلد التي كنت نائباً لرئيسها وضمت معظم نجوم الفن والإعلام؛ ثم واصلت زين الرحلة، وأحسب أن شركة بحجم زين لن يمنحها نسب مبادرة ليست من بنات أفكارها (رصيداً إضافياً)؛ كما أنها لو نسبت المبادرة لأصحابها وأكدت على الاستمرار فيها فذاك يحسب لها لا عليها.
* وإن كان من (أم مثالية) يحق لي اليوم أن أنحني أمام محرابها فحتماً (أم كل يتيم) وفي الخاطر رائعة شاعر الشعب محجوب شريف (أم اليتامى)..!
* محجوب شريف نسيج وحده عندما يكتب في السياسة وقضايا المجتمع، وإذا طالعت له نصاً شعرياً يتحدث عن نموذج إنساني نبيل فإنك لا تملك سوى أن ترفع له القبعة احتراماً وإجلالاً..!!
* طيب الله ثرى المحجوب ذلكم الشاعر الرهيف العفيف وهو يجلل رؤوسنا بالخجل عندما يمجد كفاح ونضال ورحلة شقاء كل أم مات زوجها فطلقت الدنيا ونعيمها، وجاهدت من أجل تربية وتعليم أبنائها.. تغمد المولى محجوب شريف برحمته وقلمه السيال يتدفق روعة ونبلاً وإبداعاً ودهشة عبر (أم اليتامى) تلك القصيدة التحفة التي ينزف لها القلب قبل أن تدمع العين، وأنت تنشد قائلاً:
زي ما القلب ساساق.. الخطوة ساساقة
وعيونا منتبهة تباري زقزاقا..
لا شك ولا شبهة السترة أشواقا
الشفع القصر والدمعة رقراقا
يا حليل شريك العمر الدنيا فراقة
اتيقنت أحسن من تبقى نقناقة
* ما أجمل أن تكون السترة سدرة منتهى أشواق امرأة مات زوجها في زمن (الواتساب) فوهبت نفسها لرعاية أيتامها وجرح حزنها على رفيق العمر لا يزال أخضر..!
* بالله عليكم، تأملوا هذه اللوحة القلمية والصورة المؤثرة البديعة التي رسمها محجوب لمعاناة وكفاح (أم اليتامى) آناء الليل حتى يتسنى لها الإيفاء بكافة التزاماتها لأنها طيلة ساعات النهار ستكون حبيسة المكتب.. تأملوا جيداً في قول المحجوب:
شقشق مقص في ليل نامت خلايق الله
طائر سقد حلق فى بيتها واتدلى
تدي الولاد بصة وتجرب القصة وتقلب الحلة.!
* يا له من كفاح نبيل لأم صابرة نحتاجها في زمن (التزود باليقين)، ويا له من إبداع متجاوز لشاعر تسكنه نماذج النضال التي لا ينتبه إليها الناس في لهثهم اليومي وركضهم الحياتي..!!
* كل من يقرأ نص (أم اليتامى) تفتنه أبيات ساحرة آسرة مثل:
رغم الشجن هبت لم تعرف الذلة
ما فارقت سرباً ما خالفت ملة
* يتجلى إنصاف محجوب لـ(أم اليتامى) عندما يحرر شهادة (حياة كريمة) لتلك الأم التي (مات زوجها) وربت أولادها أرملة بكدها وسهرها وعملها وعرقها، وتتجسد معاني التقدير تماماً فى قوله:
أسأل تقاريرا.. السرية والسمعة
هل ركلست يوماً حتى ولو جمعة
مشكورة فى المكتب مستورة في الحلة
* محجوب شريف أفضل من يغزل خيوط الدهشة من العادية، وتلبس معه القصيدة ثوب موضوع نابض، ودونكم مثلاً قصيدة (غويشاية) التي تمثل إدانة ناطقة لممارسة الجريمة جهاراً نهاراً تحت غطاء ما هو أبشع منها.. أما (ست البنات) فيكفي فيها فقط انتقال محجوب الرشيق المعبر البليغ من سؤال الصغار الصادم: (حق الفطور.. يُمه.. العشا..؟)، إلى بلوغ قمة المعاناة وجمال الوصف في: (نار الكوانين إنطفت.. إلا البتوقد في الحشا)..!!
* كل عام وكل أم بخير، ودعونا نرفع القبعات إجلالاً لكل (أم أيتام) فإنهن نماذج جديرة بالالتفات إليهن والتكريم والاحترام.
نفس أخير
* العبرة في الخبرة.. الأيدي لو تعمل
جرح الزمن ببرا..!!