الصادق الرزيقي

أحداث بروكسل ومنطقتنا ..!


> في كل اتجاه وسياق، لا يمكن فصل ما جرى في العاصمة البلجيكية أمس من تفجيرات دامية راح ضحيتها حتى لحظة كتابة هذه السطور «34» شخصاً وإصابة «136» آخرين بجروح متفاوتة، وبين ما يجري في المنطقة العربية من أحداث وركام من التاريخ الحديث، فمن السهل قراءة الظلال التي كانت تقال قبل يومين في منتدى (التدافع الإقليمي والدولي في الشرق الأوسط)، الذي جاء ضمن سلسلة من المؤتمرات نظمتها قناة الجزيرة في العاصمة القطرية الدوحة خلال هذا الأسبوع.
> لقد تنبه الكثير من المفكرين والسياسيين والإعلاميين والصحافيين المشاركين في المنتدى وبينهم وزراء خارجية عرب والشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة، وإعتذر عن الحضور في آخر لحظة السيد أحمد داؤود أغلو رئيس الوزراء التركي، إلى خطورة ما جرى ويجري في المنطقة العربية بعد مضي مائة عام بالتمام والكمال على اتفاقية سايكس بيكو التي صنعت الحدود السياسية الحالية في المنطقة العربية المسماة الشرق الأوسط وتم زرع الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية والإسلامية، إلا أنها ظلت لعقود طويلة هي السبب المباشر في تداعيات ما يحدث الآن من حروب في المنطقة وثورات مضادة وقهر وظلم، الأمر الذي سيكون أخطر بكثير من التقسيم الذي صنعته وخلفته تلك الاتفاقية المشؤومة عام 1916م.
> ولعل الناظر بعمق وتدقيق في الهجمات التي يقوم بها بعض المشتبه فيهم إنهم من الشرق الأوسط، كما حدث في تفجيرات بروكسل أمس ومن قبل تفجيرات باريس في نوفمبر الماضي، وقبلها تفجيرات لندن ومدريد، والأهم منها حوادث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية، ترتبط بشكل مباشر بالسياسة الغربية من الصراع العربي الصهيوني وانحيازها الصارخ للعدو المغتصب للأرض الفلسطينية، ومواقف الدول الغربية من طبيعة الأنظمة القهرية الظالمة التي حكمت المنطقة منذ خروج المستعمر واستمرت جاثمة على صدور الشعوب العربية حتى اقتلعت بعضها ثورات الربيع العربي وسرعان ما تحرك القوى الغربية وتم الانقضاض عليها بالارتدادات العكسية التي حدثت وعودة ربائب الاستعمار من جديد.. وتخلِّف أثراً هائلاً لا حدود عن احتلال العراق والفوضى العارمة التي صنعت في الوطن العربي والتراجع في القضية الفلسطينية وتمثل في حالة شحن ضخمة باليأس في نفوس الكثير من الشباب العربي خاصة أولئك الذين يلامسون قلب الحياة الأوروبية ويعيشون في سويداء فؤاد الحضارة الغربية التي زادتهم عزوفاً ونفوراً.. وجعلتهم في دوامة الإحباط وعرضة لتيارات العنف والدم.
> وفق قانون الفعل ورد الفعل، يتكون المشهد العالمي اليوم، فهي ليست مواجهة ولا حرب جديدة بين عالمين، إنما حالة من التحدي العنيف تنشأ داخل عقول ونفوس الكثير من الشباب الشاعر بالظلم والحيف والتحيز والقهر، لم تستطع الثقافة الغربية بكل سطوتها تغييبهم عن هوياتهم أو تفصلهم عن جذورهم أو تحجبهم عن ما يدور في منطقتهم التي انحدروا منها.
> ما حدث في بروكسل هو نقل لتنظيم الدولة الإسلامية لمعركته بعيداً عن ميادينها في العراق وسوريا، إلى عقر الدار الأوروبية وفي عامة تمثل الاتحاد الأوروبي، وهي ليست ردة فعل على اعتقال صلاح عبدالسلام المشتبه به الأول في تفجيرات باريس. فعملية كهذه معقدة وتقتضي تحضيرات وتجهيزات وتخطيط طويل، يبدو أنه معد له من فترة، فالسلطات البلجيكية تنفذ من نهاية العام الماضي إجراءات أمنية مشددة عقب تفجيرات باريس لارتباط تلك الأحداث بمتسللين متورطين فيها عبر أراضيها وإقامة بعضهم في مدنها وأحياء العاصمة بروكسل، فالاستعدادات الأمنية كانت على أشدها، رغم ذلك حدثت هذه التفجيرات في أماكن حساسة ذات كثافة أمنية بطبيعة وظيفتها كالمطار ومحطات قطارات الأنفاق وهي مواقع تظل على الدوام محل توقع بحدوث تفجيرات وأعمال إرهابية فيها، وهذا في مؤداه الاستخلاصي يشير إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وهو يتبنى المسؤولية من هذه التفجيرات استطاع اختراق النظم الأمنية الأوروبية في عاصمة الاتحاد الأوروبي ويضرب ضربته الموجعة جداً ثم يجلس على تلة وركام التفجيرات ينظر وينتظر …!
> لقد تغيرت موازين وقواعد اللعبة في راهن العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط، بعد مائة عام من سايكس بيكو، ولم تعد الدول الأوروبية والقوى الاستعمارية تركب البحار وتحرك الأساطيل والجيوش لاحتلال بلدان الشرق الأوسط وتقاسمها ووضع الحدود الجغرافية بين البلدان المغتصبة وصناعة الكيانات الغريبة داخلها، وتواجه نضالات وجهاد الشعوب العربية التي كانت في السابق، لقد تبدل الجلد الاستعماري كما تغير وتطور من يقاوم المستعمر الجديد ويواجهه، تواجه أوروبا أعداء مثل الأشباح تأتي من اللامكان تحمل معها مرارات الحاضر والتاريخ.. فهذه الكيمياء المعقدة العناصر ما لا تفهمه العواصم الغربية اليوم، وهو ما تنبه له الكثيرون وسيكون له تداعيات أخطر بكثير إن لم يؤب الجميع إلى التعقُّل والحياد والعدل وعدم الكيل بمكيالين.. وهذه مشكلة أوروبا اليوم..