تحقيقات وتقارير

شهادة برنابا ابيي .. هل تقطع الطريق أمام التحكيم


تطورت الأحداث على نحو مفاجئ بصورة دراماتيكية بدولة جنوب السودان، إذ لم تكتف حكومة الجنوب بالتصعيدات اللاحقة على العلاقات الثنائية المشتركة مع حكومة السودان بشأن نقض الاتفاقيات الثنائية الموقعة بينهما باستضافتها للمعارضة المسلحة المناوئة لحكومة الخرطوم، ولكنها قامت بفصل وإقالة أبرز وزرائها لسبب تصريح أدلى به في احتفال عن سودانية أبيي. ووجد قرار سلفا كير ميارديت رئيس حكومة الجنوب القاضي بإقالة السيد برنابا مريال بنيامين وزير الخارجية على خلفية تقرير تضاربت الأقوال بشأنه، من أن الدكتور لوكا بيوك الذي ينتمي لدينكا نوك ذكره الوزير في تقرير لحقوق الإنسان من إنه أجنبي ولا ينتمي لدولة الجنوب. في إشارة لشمالية قبيلة دينكا نوك سكان منطقة أبيي. غير أن أخباراً أخرى أشارت إلى أن الوزير تم إعفاؤه بعد يوم من خطاب صادر عنه وصف فيه مواطني منطقة أبيي المتنازع عليها بين السودان وجنوب السودان بأنهم «سودانيون». ولم يوضح الرئيس كير أسباب الإقالة المفاجئة للوزير ماريال، حيث أذيع نبأ اعفائه المفاجئ في بيان بثه التلفزيون الرسمي. وبعث ماريال خطاباً بتوقيعه للسيد وزير الخارجية الذي أقيل.
وفتحت هذه الإقالة الباب على مصراعيه أمام الرأي العام السوداني والجنوب سوداني من منطلق ان الحكومتين تتنازعان في منطقة أبيي منذ بواكير انفصال الجنوب، فيما بقيت قضيتها عالقة لم تحسم لتشعباتها بسبب وجود أكبر قبيلتين في المنطقة هما المسيرية ودينكا نوك التي فصل برنابا بسبب تصريحه بشماليتها أو تبعيتها لحكومة السودان. وكانت حكومة الجنوب تبني آمالاً عراضاً على ضم منطقة أبيي إليها لعدة أسباب منها أنها تمثل منطقة إمتداد تاريخي لقبيلة من قبائل الدينكا وهم أبناء نوك، والسبب الآخر أن المنطقة تزخر بالبترول والمواد البترولية التي تعتمد عليها حكومة جوبا في اقتصادها، ولذلك كله رفضت التنازل عنها لحكومة السودان. فيما لم تنفصل الأبعاد التاريخية لمواطني الجنوب وتأثيرات ذلك في تقسيمات السلطة والثروة. إذ تشير الحقائق التاريخية والمتابعات أن كل المناطق البترولية في الجنوب تقع على أراضي قبائل مناوئة لقبيلة الدينكا القبيلة المتسيدة اليوم في الجنوب، إذ ينبعث منها كل حكام المنطقة بدءاً بدكتور جون قرنق وخلفه سلفا كير ميارديت. وقد أوجدت أبيي أوضاعاً غاية في الخطورة بين البلدين، وكانت حجر عثرة أمام أي تقدم في العلاقات الثنائية بينهما. إذ أصبحت المنطقة الوحيدة التي أصبحت محروسة بقوات أممية «اليونيسفا» بعد تفجر الصراعات القبلية بين البلدين بشأنها، في وقت بدأت تجر فيه قوات البلدين الجارين لحسم النزاع فيها.
وكان البلدان استطاعا أن يضعا حداً للصراعات المتفجرة في الحدود بينهما بسبب الوضع في أبيي عقب رفعهما قضية المنطقة للآلية الافريقية رفيعة المستوى بقيادة ثابو أمبيكي الرئيس الجنوب افريقي المسؤول عن هذا الملف، الذي استطاع أن يقود هذه السفينة لهذا الثبات الذي بدأ يتجدد بسبب التعنت العالق في المنطقة من قبل طرفي الاتفاق ــ السودان ودولة جنوب السودان. وقد جرت مياه كثيرة تحت جسر العلاقات الثنائية، بين البلدين في أبيي. وقد عقد طرفي الصراع «القبيلتين» دينكا نوك والمسيرية اتفاقاً قضى بضرورة العيش المشترك في المنطقة والسماح لقبيلة المسيرية التحرك شمالاً نحو بحر العرب في موسم الدميرة لسقاية ورعاية أبقار القبائل الرعوية الشمالية هناك.
أبيي العودة للسطح
وعلى الرغم من أن الطرفين عادا للتعامل والعمل المشترك بسبب أبيي، مرة أخرى إلا أن العودة اصطحبت معها شعور عال بالمسئولية الوطنية لدى الطرفين، وعلى نحو أكبر مما مضى بعد إدراك الحركة الشعبية لضرورة النأي عن الإثارة، والركون إلى المنازعات اليومية التي تعطل باستمرار العلاقات الثنائية، إلا أن نذر الحرب والمواجهة التي تلوح في الأفق كانت تبدو حيناً وتختفي أحياناً أخر، وبدأت مقدماتها منذ المواجهات التي جرت بين الجيش الشعبي والمسيرية في مناطق الميرم، تشير إلى أن الحركة الشعبية كانت تنوي دخول الصراع بين القبيلتين في المنطقة رغم أن الصوت الحكيم العالي يطالب رئاسة الدولة هناك بأن تنأى بقواتها وحركتها من الدخول في مواجهة عسكرية مع أية فئة أو قبيلة سودانية سواء في الشمال أو الجنوب. يأتي هذا فيما أعلن الجانبان وقفاً لإطلاق النار وكان محترماً وملزماً للطرفين، ولا بد من التشديد على احترامه وأنه ومنذ التوصل إلى و قف إطلاق النار ودخول الطرفين تنفيذ الاتفاقية السلمية، فإن أي عمل عسكري أو أي أعمال حرب يستخدم فيها الجيش، كان خرقاً وتحاسب عليه حكومة جوبا والعكس كان صحيحاً أيضاً في حالة السودان. وقد كان من اللافت للأنظار أن القبيلتين ووفقاً للأنباء المتواترة قد عقدوا اتفاقيات ثنائية لتجنيب المنطقة شر الانزلاق للحرب التي إنما تقضي على مكونات المنطقة من القبائل المستوطنة هناك وكان هذا الأمر ملفتاً للنظر. بيد أن محاولات للجيش الشعبي ظلت تسعى في المنطقة وتقوم بالتطاول على قوات اليونسيفا الإثيوبية أو أن هناك تواطؤاً بحسب بعض الجهات والمصادر داخل قيادات قبيلة المسيرية، تقوم بمحاولة إجلاء قبائل المسيرية، أو إثنائهم من تحركاتهم المعروفة في المنطقة بغرض الرعي، وسنين التعايش الطويلة التي عرفت عنها المنطقة، تبدو كما تبخرت وقتها جراء أفعال الحركة الشعبية وسعيها لفرض أمر واقع تترتب عليه نتائج يتم على أساسها حسم النزاع في المنطقة وتحقيق تبعيتها للجنوب، وهو أمر لا شك أنه له أبعاد وتداعيات ليست سهلة وقد لا تقف عند حدود المنطقة، نظراً لما هو معروف من انتشار قبائل المسيرية في بقاع شتى من السودان وعدم قبولهم بوضع يجبرون عليه على هذا النحو. يأتي هذا فيما أكد الخبير الأمني والاستراتيجي الأمين الحسن لـ«الإنتباهة» أن ما حدث من إقالة للوزير برنابا بمثابة اعتراف من أحد وزراء حكومة جوبا في تبعيتهم للسودان، وبالتالي فرض واقع جديد يجب ان ترغم عليه حكومة جوبا وتقبل به وهو إلحاق دينكا نوك بوطنهم السودان وإبعاد قوات الجيش الشعبي عن منطقة أبيي التي بهذه الخطوة ثبت بما لا يدع مجالاً للتشكك في سودانيتها.
اقتناص الفرص
وتعد أبيي بوضعها الجديد عقدة ربما تتكسر كل محاولات تحويل تبعيتها لجوبا وبالتالي ربما شهدت أزمتها أوضاعاً مختلفة هذه المرة فيها وقد نشهد تصاعداً مستمراً لتتحول العلاقات بين البلدين من وقف للعدائيات إلى نهايتها، هذا إذا ما أحسنت الحكومة قيادة هذا الملف الذي انطلق لتوه من داخل حكومة جوبا. داعياً الحكومة إلى استحسان اقتناص الفرص والضرب على الحديد وهو ساخن بإعطاء كل أبناء نوك الرقم الوطني السوداني والعمل على توظيفهم في الدولة ومنحهم وظائف قيادية مساواة بالمواطنين الآخرين. وقال الحسن إن ما حدث يعتبر أحد آثار الفوضى التي ضربت جوبا. وقال بيومي لـ«الإنتباهة» كان يجب على الحكومة وضع هذا الموقف في الحسبان من أن الجنوب قد يتشظى يوماً ما وأن أبواب الحدود قد تعيد البلدين للمواجهة مجدداً، ولكنه أشار إلى أن ما حدث يمكنه أن يحسم أمر منطقة أبيي رغم وجود القوات الإثيوبية. وقال هذه سانحة جيدة وعلى الحكومة التحرك لحسم قضية المنطقة بالسرعة المطلوبة خاصة في ظل انحياز قيادات في حكومة جوبا للتأكيد بسودانيتها. وإذا ما كان أبناء دينكا نوك لاجئين في جوبا باعتبار سودانيتهم، فإن على السودان فتح أبوابه لهم والعمل على تقديم كل المساعدات التي من شانها ان تجعل من أبيي أنموذجاً للعودة طواعية إلى حضن الوطن وتغليب خيار الانضمام للسودان في ظل التجاهل الجنوبي لهم، ولابد من العمل على استصدار قرارات جوهرية مهمة من الآلية الإفريقية تقضي بانسحاب قوات الجيش الشعبي من هناك.

الانتباهة