مقالات متنوعة

احمد طه الصديق : الحبس أو السداد


> قبل أيام قليلة قال رئيس هيئة علماء السودان بروفيسور محمد عثمان صالح، إنهم يرفضون تعديل المادة المعروفة بـ «يبقى إلى حين السداد» باعتبار أنها تحفظ الحقوق وتحمي المتعاملين من المحتالين، غير أن أمانة الهيئة أصدرت بياناً، قالت إن ما صرح به الرئيس هو رأي شخصي، وأن الهيئة لم تقرر بعد في هذه القضية. وفي رأينا أن عقوبة إبقاء العاجزين عن سداد قيمة الشيكات في السجن إلى حين الإيفاء بالقيمة المطلوبة قضية شائكة، باعتبار أن ضحايا الشيكات الراجعة تضرروا كثيراً وبعضهم فقد جل أو كل أمواله بسبب عدم الوفاء من قبل بعض المتعاملين معهم، بعضهم عن عمد احتيالاً، والآخر طمعاً في الربح السريع، بعد أن تعرضوا لخسارة مالية في المشروعات التي خاضوها مما أدى إلى عجزهم عن سداد قيمة الشيكات، أي دون نية منهم في الخداع وهضم الحقوق.
> والملاحظ في السنوات القليلة الماضية، دخول العديد من التجار أو أصحاب الأعمال إلى السجن بسبب ارتداد الشيكات وبقاء بعضهم لفترات طويلة مما يفرز أوضاعاً اجتماعية جديدة، ويُطرح تساؤل ملح حول الأسباب الحقيقية وراء هذه الظاهرة، هل هي فقط نتاج للتآكل القيمي في المجتمع السوداني الذي يتناغم مع ازدياد حالات الاحتيال والغش ومحاولة الكسب السريع؟ أم هي ترتبط بالوضع الاقتصادي؟ وفي خلال السنوات الماضية التي شهدت ارتفاع تكلفة الإنتاج الزراعي والصناعي وتعدد الرسوم والجبايات والتعرفة الجمركية، انعكس ذلك على تدني القوة الشرائية ومن ثم خروج العديد من المصانع والشركات وأصحاب المتاجر نهائياً من السوق. وفي الماضي كانت وسائل الكسب الاستثماري معروفة ومحددة ومخاطرها ليست بالكبيرة في ظل السياسات الاقتصادية المنضبطة آنذاك، حيث كان الحراك يتم عبر وسائل وآليات تتعلق بطبيعة الاستثمار الذي عادة لا يخرج عن الصناعة أو الزراعة أو التجارة المعروفة، لكن التقلبات الاقتصادية المتسارعة أفرزت طبقة جديدة من المستثمرين والمضاربين والمحتكرين والطفيليين، مما أحدث انقلاباً في الأحوال الاقتصادية للطبقة الرأسماية المعروفة والمقننة، ومنذ نهاية الثمانينيات أخذت العديد من الأسماء المعروفة في ساحة الاستثمار الوطني تنداح من سقف المنافسة التجارية وإحلال آخرين جدد قد يصعب تتبع تاريخهم الاستثماري.
> وفي ظل تلك التحولات التي قللت من وجود السيولة لدى طبقة كبيرة من رجال الأعمال وتضخم في ثروات آخرين، وزيادة البطالة وارتفاع تكلفة المعيشة، حثت السياسة النقدية الجهاز المصرفي بتمويل المشروعات الصغيرة، لكن بالمقابل باتت هذه العملية محاصرة بالعديد من المخاطر في ظل الظروف الاقتصادية التي ذكرناها، فحتى الذين ينجحون في السداد قد لا يضمنون استقراراً كافياً لنمو حركتهم الاستثمارية في ظل ارتفاع التكلفة الإنتاجية والرسوم وانحسار القوى الشرائية، وهي بلا شك عوامل تمثل الأزمة المزمنة.
> ولا شك أن وجود أعداد كبيرة من ضحايا ارتداد الشيكات في السجون وبعضهم لفترات غير محدودة، امر مؤسف لما له من تأثير فاجع على مستقبل وحياة أسر هؤلاء المحبوسين، ولا بد من بحث وسيلة تحفظ للشيك قوته القانونية، وفي ذات الوقت إيجاد موازنة تراعي الحالات الضعيفة والمعسرة أو التي غرر بها ودخلت السجن بسبب تحريرها لشيك مرتد، وصحيح أن ديوان الزكاة يقوم بمعالجة بعض حالات المعسرين من المحبوسين، وكذلك بعض الجمعيات الخيرية الشبابية التي نشطت مؤخراً لاستقطاب المال لفك أسر بعض الحالات التي تستحق فك أسرها لأسباب إنسانية، لكن الأزمة لن تحل ما لم يتم البحث عن تعديل عادل للقانون يراعي معادلة الحقوق للطرفين كاتب الشيك وصاحبه المتضرر، وكذلك ما لم يحدث حركة إصلاح اقتصادي شامل من شأنها أن تلقي بإسقاطاتها الإيجابية على حركة الاقتصاد، وبالتالي تقلل من ضحايا السوق الذين يحررون الشيكات، كما يفعل الغريق المتعلق بالقشة في خضم أموج البحر العاتية.